الرجل الخراب!
تقدّم لنا رواية "الرجل الخراب" (2015) للروائي السوداني عبد العزيز بركة ساكن سردية جميلة وعميقة عن أزمات العالم العربي اليوم والتيه الذي يحيط بجيل الشباب، الذي يؤدي بهم مع غيرهم من كوكب العالم الثالث إلى التعلّق بحلم الهجرة والحياة في الغرب، بوصفه الحل السحري للخلاص الفردي.
هذه هي حال بطل الرواية الصيدلاني، درويش، الذي يهاجر إلى النمسا، عبر رحلة عذاب حقيقية ويتخذ هناك اسماً جديداً هاينرش، وتقودنا الرواية إلى حبكتها الرئيسة التي تتمثل بسؤال الهوية، خلال ليلة تعرّفه على صديق ابنته، التي وصلت الـ18 عاماً، وهنا تعود رواسبه الثقافية التاريخية، وإرثه الديني بالظهور، ويقع في الصراع الداخلي، وعبر هذه اللحظة يستعيد معنا الروائي السوداني سرديات الشخصيات المختلفة في الرواية، وتحديدا بطلها درويش.
سؤال الهوية يستدعي الكثير من القضايا والسرديات، ويؤدي إلى صراع نفسي مستمر لدى الإنسان، بين موروثه الديني والاجتماعي من جهة والعادات والثقافات التي ينخرط بها في الغرب من جهة أخرى، وهو أمر لا يمسّه أو يصيب سلوكه الشخصي فقط، بل حتى علاقته بعائلته والقيم التي تحكمهم جميعاً.
أقف عند هذا الحدّ من تفاصيل الرواية، حتى لا أفسدها عليكم، لكن ما يميّزها ويعطيها نكهة خاصة هو الأسلوب الفني في بنائها، الذي خرج عن الأساليب التقليدية في الروايات، فيقحم الروائي نفسه في النص، ويضعنا فجأة أمام صراع مفتعل بينه وبين الراوي، الذي يفترض أنّه يقدّم لنا الحكاية، ويضعنا أمام خيارات وخطوط مختلفة يمكن أن تسير بها سرديات الرواية معاكسة أو مخالفة للسردية الحالية، كما أنّه في النهاية يقدّم لنا السرديات الأخرى للأبطال الآخرين في الرواية، زوجته وابنته، التي تساعدنا في النظر إلى المنظور- الآخر الغربي، ليس العربي والمسلم، لهذه الصراعات والأزمات.
لماذا الرجل الخراب؟! لأنّ هذا الإنسان الذي وصل إلى الغرب محمّلاً بحلم الخلاص، لن يجده، فهو يحمل الخراب في داخله، من خلال ترسبات حياته السابقة، بالموروث الاجتماعي والثقافي المسكون فيه، وعملية الإدماج والتفاعل المعقدة بين هذا الموروث من جهة والحياة الجديدة من جهةٍ أخرى، فيصبح وكأنّه أكثر من شخصية وهوية متصارعة في الشخص ذاته، ويحمل أمراضه معه إلى العالم الجديد، وربما تساهم ظروف معينة حتى في الدول والمجتمعات الجديدة بمضاعفة حجم المشكلة النفسية والثقافية لديه.
تذكّرنا هذه الرواية بالعديد من الروايات العربية لأدباء يعيشون في الغرب، تناولوا إشكاليات الهوية، وعمليات الإزاحة التي تحدث فيها، بداية من الروائي السوداني المعروف، الطيب صالح (روايته موسم الهجرة إلى الشمال)، وصولاً إلى الروائي العراقي علي بدر، الذي تناول أزمات الهوية والصراعات النفسية، والرواسب المجتمعية لحال العرب والمسلمين في الغرب، في روايته "الكافرة" و"عازف الغيوم".
بالطبع لا يمكن تعميم هذه الحالة على الجاليات المسلمة والمهاجرة، وإنّما الإشكالية التي تطرحها هي إشكالية المجتمعات العربية والمسلمة، والعالم الثالث عموماً، التي أصبحت ليس فقط طاردة للشباب، بل تحمّلهم بكوارث نفسية داخلية أولاً، وثانياً التضارب بين المعتقدات الدينية والعادات الاجتماعية في المجتمعات الجديدة، بخاصة لدى الأجيال الجديدة من المهاجرين المسلمين هناك، وهو الأمر الذي استثمره تنظيم داعش بكفاءة عالية في الأعوام الماضية!
الغد - الجمعة 5/10/2018