بين حكمة الجموع وظاهرة القطيع
على الرغم من السمعة السلبية التي باتت تسيطر على صورة شبكات التواصل الاجتماعي وأدوارها في العالم بشكل عام وفي العالم العربي بشكل خاص نتيجة ازدياد توظيفها لأهداف سياسية ودينية واقتصادية، في ضوء النموذج التسويقي الذي بنيت عليه تكنولوجيا هذه الشبكات، فإن ثمة أصواتا قوية في العالم أكثر تفاؤلا لمستقبل الإعلام الرقمي بشكل عام بل لأنه في الحقيقة مستقبل الإعلام والاتصال، وبالقرب منه شبكات الإعلام الاجتماعي، فالنظرية التاريخية النقدية تقودنا إلى أن كل وسيلة اتصال جديدة تمر في مرحلة الصدمة ثم مرحلة انتقالية تسودها الريبة والشك والفوضى ويتم عادة توظيف الوسيلة الجديدة لتصبح أداة في يد القوى التقليدية لبعض الوقت ثم تميل أكثر للاستقرار وللتوظيف في خدمة الصالح العام.
ظهر مفهوم حكمة الجموع (wisdom of crowds) لأول مرة في كتاب حمل الاسم نفسه للمفكر (جيمس سيرويكي – James Surowiecki) سنة 2004 وتزامن ذلك مع بداية الوب 2.0 وبداية الجيل الأول من شبكات التواصل الاجتماعي، يطرح فيه المؤلف سؤالاً مركزياً حول حكمة الأكثرية في اتخاذ القرارات في تطوير الأعمال والاقتصاد والمجتمع والأمة؛ أي متى تكون الجماعة أذكى من الفرد.
هذه النظرية جاءت في سياق ينفي نظرية القطيع التقليدية أي قيادة الجموع وتضليلها، ونلاحظ أن الحديث عن هذه النظرية ازدهر في السنوات الأولى لظهور شبكات التواصل الاجتماعي قبل أن تلتفت القوى السياسية والاقتصادية لمصادر قوة هذه الشبكات وتقوم بما يشبه اختطافها. إن الأمر يذكر بما حدث للمطبعة وللصحافة في بدايتها، لكن في هذه المرة تدخل النموذج الاقتصادي وانحاز للطلب السلطوي والنخبوي من جديد، فالشبكات الاجتماعية شهدت تعديلات عديدة من خلال التدخل في الخوارزميات التي تعمل على أساسها الشبكات. بمعنى أننا ما زلنا في صراع بين فرضية حكمة الجموع وفرضية القطيع فأنصار الفرضية الأولى يذهبون إلى أن ما يحدث لا يعدو أكثر من مسألة وقت.
أصحاب فرضية حكمة الجموع يؤكدون على أن المستخدمين والتكنولوجيا في طريقهم للتخلص من الكثير من مظاهر الاختلالات، وسيعملان على المزيد من التنظيم الذاتي والمزيد من الأدوات التي تمكن الناس من التدقيق، ومن توفير حشود هائلة من المعلومات التي تصحح الأخطاء وتقاوم التضليل كما لن تكتفي بذلك فستعمل الحشود الهائلة من الأفكار والنقاشات على تعليم الناس الديمقراطية العابرة للثقافات، فيما ستكون الأجيال القادمة التي تتعلم وتتسوق وتعمل من خلال الانترنت أكثر قدرة على الاستفادة من هذا الكم الهائل من المعلومات والآراء وأكثر قدرة على التركز والعمق.
تُوفِر حكمة الحشود المعرفة والمعلومات والتعاون والتنظيم والتنسيق، وتحديدا من خلال شبكات التواصل الاجتماعي ولقد بات من الممكن حشد الأمثلة على استخدام وسائل الإعلام أو الحكومات أو الشركات أو مؤسسات المجتمع المدني لهذه الحاسة الجديدة من أجل الوصول إلى حلول ابتكارية أو حلول تقليدية مجهولة للعشرات من المشكلات على سبيل المثال الحكومة البريطانية وشركة النفط العملاقة "BP" يستفتيان الحشود على الشبكة من أجل الوصول إلى الحلول أو أفكار لوقف تسرب النفط في خليج المكسيك، شركة "Gold Gorp" وهي شركة تعدين كندية عملاقة مرت بأزمة مالية، وفشلت في الوصول إلى الذهب في أونتاريو الشمالية، وعندما جاء مديرها الجديد وضع كل البيانات الجيولوجية والجغرافية على إحدى الشبكات وطلب مساعدة الحشود في اقتراح المكان الذي يوجد فيه الذهب طارحاً جائزة بقيمة نصف مليون دولار لمن يقدم معلومات دقيقة، وصلته اقتراحات من خبراء وهواة من مختلف أنحاء العالم وخلال شهور أصبحت هذه الشركة قادرة على الوفاء بالتزاماتها، كذلك يفعل العديد من شركات صناعة وتطوير الأدوية في البحث عن الحلول الشعبية التقليدية في كيمياء الأعشاب وغيرها.
إنها تكنولوجيا ضخمة ودقيقة للوصول إلى مجموعات كبيرة من الناس مع مجموعة متنوعة من المهارات والمعارف، وتكنولوجيا قادرة على تصحيح ما يقع الناس فيه من الأخطاء في المستقبل؛ علينا أن ننتبه إلى أين يذهب العالم.
الغد- الاثنين 8/10/2018