الإسلام والتحضر
من أعظم مقاصد الإسلام بناء الانسان بناءً صالحاً متكاملاً عقلاً ونفساً وبدناً و روحاً، ليكون قادراً على حمل الأمانة التي شرفه الله بها، ومن أجل القيام بمهمة الخلافة في الأرض التي خلق ابتداءً لها بنص القرآن الكريم في حوار الله مع الملائكة (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً)، ولن يكون قادراً على القيام بهذه المهمة العظيمة التي ترتكز بجوهرها على العناية بموجودات الكون، الاّ بالعلم وامتثال قيم التحضر النبيلة وعلى رأسها قيمة « العدل « ومن هنا فإن الانسان الظلوم والجهول غير مؤهل للأمانة وغير قادر على انجاز مهمة الاستخلاف في الكون المتمثلة بالاعمار والاصلاح ومقاومة الفساد.
ليس هناك أشد ضرراً على المجتمع البشري وكل عوالم الكون من الأدمي الذي فقد كرامته، ولم يتمثل منظومة القيم الفاضلة والأخلاق الحميدة، وفقد حاسة الايمان، فجعل منه كائناً متوحشاً يفسد في الأرض بعد اصلاحها، (وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ ) وقال تعالى أيضاً (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ ).
فكل من يحمل الدين ولا يظهر تدينه تحضراً وتمدناً، وتمثلاً للقيم النبيلة والأخلاق الفاضلة، فهو لا يفهم الإسلام و لا الدين ولم يحسن لنفسه ولأمته ولا لدينه و لا لوطنه، فكل من يحمل الاسلام يجب أن ينعكس ذلك على سلوكه وانجازه على صعيد نفسه ومجتمعه، وفي علاقاته مع البشر والناس والموجودات وفي تعامله مع الكون.
التحضر هو امتلاك القدرة على التعامل مع الأشياء، بطريقه سليمة تقوم على العلم والمعرفه، وادراك أسرار الكون و نواميس الطبيعة في كل مجالات الحياة، بما يحقق الاصلاح وينفي الفساد و يحفظ حياة الانسان و كل المخلوقات على نحو متوازن، ويبقى على صعود دائم في سلم التقدم البشري الذي ينعكس على حياة البشر سعادة وراحة وبعدا عن المنغصات وكل ما يلحق الضرر بالنفوس والمخلوقات جميعاً.
التحضر جانبان جانب معنوي متعلق بالأفكار والقيم والأخلاق والآداب والفن والتعامل، و جانب مادي يتعلق بالانجازات والعمران والآلات والوسائل، والتمدن المادي لا يمثل دور الحضارة، فليس كل من ملك الادوات الحديثة والأشياء الفاخرة بمتحضر، وانما التحضر يتجلى في كيفية استعمالها والاستثمار فيها على نحو سليم وجميل ونافع، لعيون الكرامة الآدمية ويحفظ العلاقات الانسانية ويسمو بالنفوس إلى معارج الكمال البشري، بعيداً عن الظلم والاستعلاء والحاق الضرر بالآخرين وبعيداً عن الإثم والعدوان.