معنى الدولة القادرة
جاء توجيه جلالة الملك حول استعادة منطقتي الباقورة والغمر في لحظة فارقة ومهمة كانت الدولة الأردنية بأمس الحاجة لمثل هذا القرار حيث تم إبلاغ الطرف الاسرائيلي مباشرة بعدم الرغبة بتجديد النظام الخاص بأراضي الباقورة والغمر الذي نص عليه الملحق (1ب) والملحق (1ج) من اتفاقية وادي عربة بين الأردن واسرائيل وعدم تجديد تأجير هذه الاراضي لـ 25 سنة اخرى.
هذا القرار يستعيد جوانب مهمة من هيبة الدولة ومكانتها في عيون مواطنيها على أقل تقدير، ويضع مبدأ الدولة القادرة على تمييز مصالحها وحمايتها موضع التنفيذ العملي، ويعني حرص المؤسسة القيادية بكل رمزيتها على صيانة النظام السياسي ومده دوما بقرارات شجاعة، وقبل كل ذلك الحرص على صيانة الدستور وحمايته.
كما توقعنا قبل يومين ومن المفيد التكرار بأن لاتخاذ مثل هذا القرار متطلبات سياسية واستراتيجية وقانونية تحتاج من الحكومة ومنذ هذه اللحظة استعدادا جديا فلا نتوقع أنه بمجرد أن تسلم السلطات الأردنية نظيرتها الإسرائيلية مذكرة تطلب إلغاء ملاحق تأجير الأراضي سنجد الاسرائيليين يرحلون في اليوم الثاني، وهذا ما حدث بالفعل فقد أعلن رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو مباشرة بأن اسرائيل ستتفاوض مع الأردن لإعادة تأجير هذه الأراضي لـ 25 سنة جديدة، علينا أن نتوقع معركة سياسية وقانونية وإعلامية ايضا. مع العلم أن مدة التأجير القانونية وفق اتفاقية وادي عربة تنتهي العام القادم وليس هذا العام ولكن الاستحقاق لإعلام الطرف الآخر بعدم الرغبة في التجديد يتطلب حسب هذه الاتفاقية إبلاغ الطرف الآخر قبل عام.
الأمر الذي يؤخذ بعين الاعتبار كيف يمكن أن نطور من هذه الاحداث منظورنا لتماسك الدولة وقدرتها على حماية المصالح الوطنية وكيف ينعكس هذا التراكم في وعي الناس ووجدانهم ؛ أي في المحصلة في الثقة العامة، فالمعادلة الصحية في مسار بناء الدول المعاصرة تتلخص في مجتمع قوي يعني دولة قوية، يمكن في لحظة أن تهتز الدولة ولكن لا يجب ان تتعمق هشاشة المجتمع لأن المصدر الأقوى والأغنى لقوة الدولة يتمثل في قوة المجتمع وثقته بالقدرة على التجاوز والعبور.
المشكلة أحيانا ليست في المخاطر والتهديدات التي يواجهها المجتمع، فالمجتمع كائن حي قد يتعرض للأمراض والعلل ؛ بل في الطريقة التي يواجه بها هذه المخاطر وفي قدرة الدفاعات الذاتية على المواجهة؛ أي حيوية المجتمع في الاشتباك الذي يحول التحديات والمصاعب إلى فرص لمزيد من التقدم وللتخلص من الحمولات الزائدة والأعباء؛ هذا ما لم يحدث خلال الأشهر الأخيرة في الكثير من التحديات والصعوبات التي واجهها المجتمع الأردني.
مطلوب أن يبني الأردن خيارات واقعية تفضي إلى ضمان استقلالية قراراته الخارجية والداخلية بما يخدم المصالح الوطنية أولا، ومن ثم الوصول الى أدنى حد ممكن من الصراعات أو الخلافات مع دول الاقليم ثانيا، وتنويع الأصدقاء والحلفاء ثالثا، فالثراء السياسي الحقيقي في هذه الأوقات يدفع نحو معادلة تكون فيها الخلافات الخارجية صفرا؛ أي أصدقاء للجميع. قد يكون هذا الطرح صعبا في النظرة الأولى لكنه غير مستحيل بل يقع في صلب الواقعية السياسية.
إن السياسات الخارجية الاقليمية في هذه المرحلة تكاد تدار بالكامل من خلال الدعاية السياسية، حيث تتكاثر أنماط متنوعة من صناعة الأكاذيب ومن التلفيق وتمرير الصفقات من تحت الطاولة ومن فوقها فيما ينشط الخيال السياسي، وتنمو هذه الظاهرة إلى جانب نمو أنماط أخرى من الشعبوية وتصنيع الرموز وبيع الناس مشاعر وانفعالات قد تكون زائفة، وهذه الظواهر لا تخدم الواقعية السياسية التي يحتاجها الأردن. وعلى قدر ما يحتاج الأردن الى الحد من الصراعات الخارجية والميل نحو الاستقرار إلا أن بعض أنماط العلاقات تحتاج الى ندية حقيقية لا تقبل المساومة والتريث والى قرارات جريئة؛ فهذه الواقعية الجديدة تحتاج أن نوصلها الى الناس لكي يقتنعوا أن الدولة قادرة على حماية المصالح الوطنية حينما تصل الأمور إلى المحك.
الغد - الاثنين 22-10-2018