العقد الثقافي وشبكات التواصل
يجيء مقال الملك بعنوان "منصات التواصل أم التناحر الاجتماعي" في سياق التحول الكبير في الفضاء العام من الهرمية إلى الشبكية، ففي حين استقرت الأمم على مدى القرون في تشكيل هرمي تنظم فيه عمليات تدفق المعرفة والمعلومات تنظيما مركزيا دقيقا؛ ويتلقى الناس هذه المعرفة من خلال أوعية منظمة مثل ما تنتجه المطابع ومحطات الإذاعة والتلفاز والمدارس والجامعات والمعابد،.. لكن الشبكية اليوم تتيح لجميع الناس على قدم المساواة تقديم وتلقي المعلومات والمعرفة، وفي ذلك تتساوى محطات التلفزة الكبرى مع فرد محدود الموارد، ولا يحتاج لأجل هذه المساواة سوى موبايل قادر على الوصول إلى الشبكة، أو هو كما يسميه جيرمي ريفكين "عصر الوصول" والوصول هنا ترجمة لكلمة access ففي القدرة على الوصول إلى الشبكة لم تعد كل المؤسسات والموارد تختلف عن بعضها في شيء يذكر.
لكن الثقافة المصاحبة لهذا التحول الكبير لم تنشئ بعد استجابة ملائمة وراشدة، فالاختراعات العلمية ليست مجرد تقنية، بل إن آثارها الاجتماعية والاقتصادية تتشكل في متوالية معقدة ومتواصلة من التحولات والاستجابات لم تخطر على بال المخترعين أنفسهم فضلا عن القادة والمخططين والفاعلين الاجتماعيين.
تبدو "الشبكية" حتى اليوم تحديا للأمم بكل مكوناتها (السلطات والمجتمعات والمنظمات والأسواق والأفراد) فهي غير قابلة للتنظيم المركزي كما كان عليه الحال من قبل، ولا تقف في تأثيراتها على الجدل العام وتبادل ونشر المعرفة والمعلومات لكنها تمتد أيضا إلى الأسواق والأعمال.
ففي عمليات البيع والشراء والتسويق من خلال الشبكة تتغير المولات والمعارض والمؤسسات والوكالات التجارية، وفي تحويل الأموال تتأثر البنوك والسلطات المالية، بل ويبدو أن معنى المال نفسه يتغير، فإذا ترسخت لدى الناس المقاييس والأدوات الجديدة للثروة مثل بلوك تشين وبيتكوين يتغير معنى النقود والثروات وأدواتها وتبادلها والسلطات المنظمة لها...
وفي موضوعنا عن الفضاء العام والجدل الدائر من خلال شبكات التواصل فإن أهم ما يجب ملاحظته في ذلك هو تراجع دور المجتمعات والمؤسسات (المدارس والجامعات والمعابد والإعلام) والمنظمات الاجتماعية (الاحزاب والنقابات والجمعيات) في التنظيم الاجتماعي والأخلاقي وتهيئة الفاعلين الاجتماعيين لأدوارهم ومواقعهم وأعمالهم ومسؤولياتهم وضبطهم ومحاسبتهم، وتزويدهم بالقيم والمعارف والمهارات اللازمة، وهو تراجع كبير يقترب من العجز، وصعود الفرد كيانا مستقلا وقادرا على التأثير بصفته فردا وليس من خلال انتمائه إلى مجتمع أو شركة أو جماعة أو مؤسسة، وبطبيعة الحال تصعد الفردانية أيضا كقيمة وفضيلة للشبكية ولم تعد ضريبة أو شرّا لا بد منه كما كان الحال في الهرمية الصناعية و أو الزراعية.
في هذا التحول الشبكي فإن الأمم والمؤسسات تتحول أيضا من المركزية والصلابة والدقة إلى السيولة والضبابية والفوضى، ويبدو البديل في بناء وصعود الثقافة والذات الفاعلية، فالأفراد اليوم تجمعهم الثقافة أكثر من القوانين والمؤسسات والمنظمات، والذات الفاعلة بمعنى الفرد الكفؤ والمبدع هو القادر على قيادة المؤسسات والمجتمعات والموارد والأسواق والتأثير فيها ..
أتحدث على نحو ما أو موازي عن رأس المال البشري المؤدي إلى مواطن ملتزم ومبدع، ليس فقط لأجل حماية القيم والمجتمعات والعلاقات لكن أيضا لحماية وجودنا ومصائرنا، فالشبكية لم تعصف فقط بالقيم والمؤسسات لكنها تعصف أيضا بالاعمال والموارد، وإذا لم يظهر الفرد المبدع والفاعل فإن أكثر من 90 % من المواطنين سيفقدون أعمالهم ومواردهم.
الغد - الخميس 1-11-2018