تعذيب الفلسطينيين.. مخجل حقاً..!
كنتُ أتابع إعادة للحلقات الأولى من العمل الدرامي المهم، "التغريبة الفلسطينية"، الذي يوثّق حكاية النكبة الفلسطينية من أولها. وبين يديّ في نفس الوقت، كان خبر عن تقرير "هيومن رايتس ووتش" الذي صدر الأسبوع الماضي ووصف حالة الفلسطينيين الآن تحت حكم سلطتي رام الله وغزة.
وفي "التغريبة"، يكافح الريفيون الفقراء في عهد الانتداب البريطاني ضد قوى متراكبة قاهرة: الإقطاعيين والمخاتير الفلسطينيين المحليين الذين يستقوون عليهم؛ والسلطات الاستعمارية البريطانية التي تقصم ظهورهم بالضرائب والقمع وكبت الحريات والتحكم بالمصائر؛ والعصابات الصهيونية التي تتربص بهم وتتهيأ للانقضاض عليهم.
وبدا أن شدة العذاب الفلسطيني لم تتراجع خلال قرنٍ تقريباً من المعاناة المتواصلة. في السابق، كان المخاتير والإقطاعيون المحليون يشاركون، والآن يتسلط فلسطينيون على الفلسطينيين، وإنما بطريقة أكثر تنظيماً وبأساً؛ بأنظمة حاكمة وأجهزة أمن.
يقول تقرير منظمة "هيومن رايتس ووتش" أن قوات الأمن التابعة للحكومتين المتنافستين في رام الله وغزة، تستخدم بشكل روتيني التعذيب والاعتقالات التعسفية، من بين أساليب أخرى، لقمع المعارضين من النشطاء السلميين والمنافسين السياسيين. ويقول التقرير أن الاستخدام المنهجي للتعذيب بهذه الطريقة يمكن أن يرقى إلى جريمة ضد الإنسانية بموجب "اتفاقية مناهضة التعذيب" للأمم المتحدة.
من بين أساليب التعذيب التي يستخدمها المحقِّقون الفلسطينيون مع المعتقلين الفلسطينيين، والتي تشكل انتهاكات لحقوق الإنسان، كما ذكر التقرير: الجَلد على الأقدام (الفلقة)؛ وإجبار المعتقلين على اتخاذ أوضاع مؤلمة؛ ورفع ذراعي المعتقل خلف ظهره بحبل؛ ومنع المشتبه بهم من إمكانية الوصول إلى هواتفهم المحمولة وحساباتهم على وسائل التواصل الاجتماعي". وكما هو واضح، فإن هذه نفس أساليب التعذيب التي تستخدمها الأنظمة الاستبدادية، وكيان الاحتلال الوحشي نفسه.
من حيث المبدأ، تستنكر الإنسانية قيام أي سلطة بتعذيب معتقلين تحت أي ذريعة وفي أي مكان. لكن قيام "سلطات" بتوظيف هذه الأساليب مع أبناء شعبها المعذب أصلاً يستوجب استنكاراً غير محدود، ويثير الاشمئزاز جملة وتفصيلاً. وقد تكرَّرت التقارير والإفادات عن قيام أجهزة أمن نظامي الحُكم في الضفة الغربية وغزة باعتقال الفلسطينيين وإخضاعهم للتعذيب القاسي لمجرد معارضتهم لوجهة نظر النظام المعني، والتعبير عن رؤاهم بطرق سلمية.
ربما تكون الجريمة الوحيدة التي تستحق اعتقال الفلسطيني هي خيانة قضية شعبه والتجسس عليه لصالح العدو. أما إذا كان الاختلاف مع الفلسطيني الآخر يتعلق برؤية مختلفة لأفضل الطرق لهزيمة العدو وتعزيز القضية الوطنية، فإن حبس صاحب الرأي الآخر، وتعذيبه؟! هو وصفة سقوط أي نزاهة أو شرف أو ادعاء للنضال من أجل حرية الشعب الفلسطيني.
في السياق العجيب للمسارات الفلسطينية في العقود الأخيرة، أصبح حتى مفهوم "المتعاون" مع العدو فضفاضاً ورخواً. ربما تُفسِّر السلطتان في "الفلسطينين" اعتراض أحد على طريقتهما في التعامل مع العدو على أنها تعطيل لمسيرتهما الوطنية، وبالتالي تعاون مع العدو. وقد رصدت "التغريبة" مشهداً شبيهاً بما يحدث اليوم، حين تحول "بيك" إقطاعي فلسطيني كان يستقوي على الضعفاء بالرجال والسلاح، إلى قائد فصيل في الثورة ضد الإنجليز. ويزعم "البيك" بأنه مكلف بمعاقبة الفلسطينيين الذين يعيقون الثورة ويتعاونون مع العدو –مثلاً بعدم دفع "التبرعات" لرجاله تحت تهديد السلاح!
في الحقيقة، لا نعرف ماذا يمكن أن نسمي ما يدعى "التنسيق الأمني" الذي يصفه منظرو الكيان بأنه مكسب خيالي لم يتصوروه في أكثر أحلامهم جموحاً. ولا نعرف مَن الذي ينبغي أن يحاسب مَن على هذا الأساس. من المفزع تصور اتخاذ عدو من فلسطيني مقتنع بوجهة نظر حماس في الضفة، أو مقتنع برؤية فتح في قطاع غزة، واعتبار كليهما موضوعاً شرعياً للاعتقال والتعذيب في المكانَين. أنتم أيها القادة في السلطتين، فشلتم في جمع الفلسطينيين على قلب رجل واحد وأربكتم أحكامهم، ثم تعذبونهم على حيرتهم؟!
لا منطق في تصور أي تقدم للنضال الفلسطيني إذا كان الفلسطيني يعتقل شقيقه ويعذبه بلا رحمة لأنه معارض ينشر رأيه على "فيسبوك" –أو لأنه يقاوم الاحتلال في كثير من الأحيان. أي حال بائس سيكون للفلسطينيين إذا قامت دولة فلسطينية في ظل هكذا أنظمة تتجبر وهي مُحتلة؟ كان محتوى تقرير "هيومان رايتس ووتش" مخجلاً بكل المعايير.
الغد - الخميس 1-11- 2018