قنديل يغادر في عصر ما بعد الحقيقة
غادر الدنيا الأسبوع الماضي الإعلامي المصري الكبير حمدي قنديل ، بعد عقود طويلة من الاشتباك الإعلامي والسياسي دفاعا عن الحقيقة والأخلاق المهنية ، كان قدره أن يغادر للمرة الأخيرة فيما يحل عصر ما بعد الحقيقة ، بكل ما يشير إليه من فوضى وعبثية وتضليل وزيف حيث أصبحت الحقائق الموضوعية أقل تأثيرا في تشكيل الرأي العام، مقابل قوة الشحن العاطفي والمعتقدات الشخصية، وهي الظاهرة التي تلقي بظلال داكنة على المنطقة العربية أكثر من غيرها لتزيدها عتمة أكثر من قبل .
كان حمدي قنديل رائدا مؤسسا حقيقيا للصحافة التلفزيونية في العالم العربي حينما ساهم في ميلاد التلفزيون المصري الذي يوصف أنه ولد عملاقا ، ولعب دورا قريبا من ذلك في نهاية الستينيات مع التلفزيون الأردني الذي ولد عملاقا أيضا ، حينما قدم خدمات استشارية وأقام في عمان نحو عام .
كان مراسلًا للتلفزيون المصري خلال حرب 1967، وعاد سيرًا على الأقدام من سيناء، كان متحمسًا لعبد الناصر، لكنه كان واعيًا للأخطاء التي وقع فيها، وقدم في مذكراته ( عشت مرتين ) شرحا أمينا لأخطاء تلك المرحلة .
وفيما بعد أسس لنمط جديد من الصحافة التلفزيونية القائمة على العمق والسخرية الرصينة واللاذعة في برنامج "رئيس التحرير" على التلفزيون المصري و " قلم رصاص " على تلفزيون دبي جمع في هذين البرنامجين خبرة أكاديمية ومهنية ومعرفة واسعة بصناعة الصحافة التلفزيونية إلى جانب معرفة عميقة بالمشهد السياسي المعاصر ما جعل هذه التجربة من أعمق ما شهدته شاشات التلفزيون العربي على مدى نحو ستة عقود .
لقد كانت الأخبار في قنوات التلفزة العربية مملة ووجبة كئيبة يقول فيها المذيعون في المساء ما يأمر به الحكام في النهار. كانت وما زالت للأسف وظيفة الأخبار التلفزيونية في العالم العربي إضفاء المزيد من الوقار والأبهة على أفعال السياسيين ، فيما كانت محاولات قنديل هي الانشقاق على تلك الرتابة حينما استطاع ولأول مرة من جعل الكبار والصغار والمثقفين والنخب وعامة الناس يلتفون حول شاشة برنامج إخباري وينتظرونه .
الأمر الملهم في سيرة قنديل الذي قضى في "اليونسكو" نحو عقد من عمره ساهم خلالها في محاولة إعادة تأسيس نظم الإعلام في العالم العربي على الحق في المعرفة، إنه نموذج نادر من الإعلاميين العرب الذي بقي على التزامه الفكري والأخلاقي الذي عبر عنه منذ ستينيات القرن العشرين إلى يوم وفاته، وبقي في ترحاله بين الصحافة والتلفزيون والسياسة وفيا لتلك المبادئ ، وبرز هذا الالتزام والوضوح الأخلاقي في اشتباكه مع تداعيات المشهد السياسي المصري قبيل ثورة يناير 2011 وبعدها وفي الدور الذي لعبة في محطات مفصلية من التحولات المصرية، تحالف مع العديد من القوى في مرحلة ما بعد الثورة ولكنه شعر بالخيبة والخذلان ما دفعه للعودة مرة أخرى إلى ذاته .
يرحل حمدي قنديل في وقت يزداد فيه تهشيم الكثير من المحاولات التي بذلت في العقود الأخيرة لتغيير مهمة ودور الإعلام العربي ، وفي الوقت الذي ينطفئ رمز تلو الآخر من الرجال والنساء الذين حاولوا أن يلفوا الحرف والكلمة العربية بحصن من الأخلاق مقابل استمرار الضمور وتراجع القدرة على الاحلال.
قبل أربع سنوات استضفنا حمدي قنديل في معهد الإعلام الأردني للحديث للطلبة وللخريجين اقتبس هنا بعض الوصايا التي أوصى الطلبة بها ونحن بأمس الحاجة لإدراكها وتعلمها "تفهموا دوافع من يخالفكم في الرأي وخاصموه بنزاهة وانتقدوه بعفة، ما دام المجتمع نصبكم قادة فكر ورأي فعليكم أن تصدقوا الناس في القول، ولكي تصدقوهم اصدقوا أنفسكم." ، و" لا تتحولوا إلى دعاة سياسيين وتتركوا المهنة وراء ظهوركم" .
الغد - الاثنين 5\11\2018