مدنية أم أصولية.. من ينتصر؟!
لا يمكن النهوض بأي دولة وتطويرها دون تحديد الشكل العام لتلك الدولة، ونحن في الأردن طالما سعينا لتحديد شكل دولتنا على أساس المساواة والعدالة وتعزيز مبدأ تطبيق القانون وسيادته، والاحتكام للدستور بجميع مفاصل الحياة، والعدالة وبما يكفل الحريات العامة للأشخاص، وحرية التعبير والقول، وحرمة المساكن وغيرها.
صحيح ان تطبيق هذا المفهوم لم يكن واضحا بكل مفاصله، وكانت الرؤية ملتبسة نوعا ما، فنحن لسنا دولة علمانية بكل ما تحمله الكلمة من معان واستحقاقات، كما أننا لسنا دولة راديكالية أو أصولية، فنحن ما بين المفهومين، ولكننا في الأساس يجب أن نكون دولة يحكمها دستور وقوانين مرعية في كل جوانب الحياة، والاحتكام دوما يكون لتلك القوانين التي نسعى جميعا لتطويرها بما يوصلنا للحريات التي نبحث عنها والعدالة التي نتحدث عنها، ومحاربة الفساد والافساد الذي نلعنه صباح مساء.
بيد أن جلالة الملك عبد الله الثاني كان واضحا في الورقة النقاشية السادسة التي أشار فيها بوضوح لشكل الدولة التي نريد إذ قال جلالته: "كثر الحديث في الآونة الأخيرة عن الدولة المدنية، وقد حدث لغط كبير حول مفهوم هذه الدولة، ومن الواضح أنه ناتج عن قصور في إدراك مكوناتها وبنائها، إن الدولة المدنية هي دولة تحتكم إلى الدستور والقوانين التي نطبقها على الجميع دون محاباة؛ وهي دولة المؤسسات التي تعتمد نظاما يفصل بين السلطات ولا يسمح لسلطة أن تتغول على الأخرى، وهي دولة ترتكز على السلام والتسامح والعيش المشترك وتمتاز باحترامها وضمانها للتعددية واحترام الرأي الآخر، وهي دولة تحافظ وتحمي أفراد المجتمع بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية أو الفكرية، وهي دولة تحمي الحقوق وتضمن الحريات حيث يتساوى الجميع بالحقوق والواجبات، وهي دولة يلجأ لها المواطنون في حال انتهاك حقوقهم، وهي دولة تكفل الحرية الدينية لمواطنيها وتكرس التسامح وخطاب المحبة واحترام الآخر وتحفظ حقوق المرأة كما تحفظ حقوق الأقليات".
الكلام الملكي واضح، بيد أن الخطورة أن تقع حكوماتنا المتعاقبة والحكومة الحالية تحت ضغط طرف وتغلبه على طرف آخر، وأن تنحاز لوجهة نظر دون أخرى، وأن نحيد بالتالي مفاهيمنا حول شكل الدولة التي نريد، واستحضار مفاهيم جديدة تتعارض مع مفاهيم تطور الدول.
من حق أي جهة أو طرف أو حزب أن يطالب بتنفيذ رؤيته، وأن يدفع باتجاه تنفيذ وجهة النظر تلك، ومن حق المعنيين في ذاك الحزب الضغط بقوة لتنفيذ ذلك، فذاك حق طبيعي للأحزاب لا خلاف عليه، بيد أن المشكلة الأساسية تكمن في مجاملة ذاك الطرف على حساب أطراف أخرى، وتقديم وجهة نظره والتعامل معها دون غيرها، وهذا يكون أصعب وأكثر خطورة إذا كانت الجهة التي تجامل ذاك الحزب أو الطرف يفترض أنها تمتلك رؤية مختلفة، وحدثتنا عن عقد اجتماعي جديد لم نر منه شيئا يذكر حتى اليوم.
أعرف يقينا أن الحكومات أحيانا تضطر لمجاملة نواب وأحزاب وأفراد، وتسعى أحيانا لإطفاء بؤر توتر قبل أن تتوسع، بيد أن ذاك لا يعني أبدا التخلي عن المفاهيم التي تؤمن بها، فالحكومة التي قالت لنا في خطاب الثقة انها تنطلقُ من التعدديّة والوسطيّة، والتّسامح، واحترام الرّأي والرأي الآخر، وأنها تؤيد تكريس مفهوم سيادة القانون كأساس للدّولة المدنيّة؛ وإنّ مناعة الدّولة تتأتّى من قدرتها على حماية كيانها ومصالحها، وحماية كيانها ومصالحها تتأتّى من قواها الذاتيّة، وقواها الذاتيّة تتأتّى من قوّتها الاقتصاديّة، وقوّتها الاقتصاديّة تتأتّى من دولة القانون والمؤسّسات والعدالة الاجتماعيّة لا يتوجب عليها الذهاب باتجاه منع فعاليات ومحاضرات وحفلات غنائية ومداهمة بيوت، ومنع حفلات تأبين لشهداء قضوا بفكر أصولي متطرف.
حالة الشد بين التيارات الفكرية لا تنتهي ولكن الأصل أن نحافظ جميعا على مدنية دولتنا ونحرص على حرية الأفراد ونؤمن للجميع وعاء يطرحون فيه رؤيتهم وإن اختلفنا معهم.
الدستور - الاربعاء 7-11-2018