بين دور الفرد وضعف المؤسسية
أعطى العالم العربي دوما وزنا غير طبيعي لدور الفرد في نجاح المجتمع أو فشله، وذلك ضمن نظام أبوي يعظم دور الشخص وينتقص من دور المؤسسة ولو تم ذلك أحيانا بشكل غير مباشر. في الأردن مثلا، ربط الناس النجاحات والإخفاقات الحكومية بطبيعة أشخاص رؤسائها فقط دون تقييم موضوعي لدور الحكومات في تشييد بناء مؤسسي يستطيع مواجهة الأزمات حين تحدث من خلال منظومة متكاملة تتجاوز قدرات أو إخفاقات أي شخص بحد عينه. هذا نتاج مباشر لغياب الحياة الحزبية القادرة على إنتاج الكوادر والبرامج، أما الأشخاص فمهما علا قدرهم فهم غير قادرين على الانتاج بكفاءة منتظمة دون أن تحملهم مؤسسات وأنظمة فاعلة.
وفي حين لا ينكر أحد دور الأشخاص الأفذاذ والقلائل في توجيه جهودهم من أجل إعلاء شإن هذا البناء المؤسسي، فقد حان الوقت للحكم على النجاح بالتوقف عن التركيز المفرط على الشخص وإيلاء بناء دولة المؤسسات ما يستحق من عناية.
إن حادثة البحر الميت المفجعة وفقدان هذا العدد الكبير من أبنائنا وبناتنا الغوالي هي دليل آخر على إخفاقنا جميعا في بناء دولة المؤسسات القوية القادرة على التصدي للأزمات ليس بفعل او غياب فعل مسؤول بعينه، وإنما بوجود نظام مؤسسي تعرف كل دائرة حكومية بموجبه ما عليها أن تفعل، دون الرجوع دوما للمسؤول الأول في الوزارة لتلقي كافة التعليمات الصغيرة منها والكبيرة.
لا تحل المشكلة بالاستقالة الأدبية لمسؤول حين تقع أخطاء داخل مؤسسته فقط، ولكن أيضا بالإدراك أن الكثير من هذه الأخطاء ناجم من تراكمية في ضعف الأداء، وتواجه المشكلة بالتصميم لبناء المؤسسات القوية والأنظمة الفاعلة داخل الوزارات. من هذه الزاوية، فجميعنا مسؤولون عن الوهن الذي أصاب مؤسساتنا، فقد بقينا نركز على الشخص دون المؤسسة، وعلى الصفات الفردية دون القدرة المؤسسية.
لعل المسؤولين الذين نجحوا حقا في أدائهم هم أولئك الذين أعطوا قدرا من التركيز على تقوية مؤسساتهم من الداخل، حتى إذا ما تم ذلك أصبح نجاح المؤسسة لا يرتبط باسم المسؤول فيها فحسب. في الماضي، تمكن البناء المؤسسي من تخريج العديد من القيادات الأردنية في مؤسسات كوزارة التخطيط والبنك المركزي مثلا، فكان النجاح للعمل المؤسسي أكثر منه للقدرات الفردية مهما كانت. كما لم ترتبط المؤسسة العسكرية التي تحوز على أعلى ثقة لدى المواطنين بين كافة مؤسسات الدولة بأسماء أشخاص معينين قدر ارتباط هذه الثقة بأدائها المؤسسي.
لا نستطيع إنكار أننا أهملنا كل ذلك اليوم، ولم نركز على النوعية في الأداء، واعتمدنا نظاما ريعيا أدى لتخمة في الجهاز الحكومي حال دون تطوير ممنهج للعمل، فكانت النتيجة في الغالب الالتهاء بادارة الأزمات بشكل يومي بدلا من الإعداد المؤسسي والممنهج للمستقبل، حتى أصاب الوهن والضعف أغلب مؤسساتنا.
نعم، كلنا مسؤولون عن ذلك، فإن أردنا ان لا تذهب أرواح أبنائنا وبناتنا سدى، فلندرك أن إدارة الدولة بحاجة لمراجعة جذرية، تتضمن إصلاحات سياسية واقتصادية جدية، كما تتضمن خطة واضحة للتطوير الاداري تركز على الأداء المؤسسي، وتتضمن كذلك نظاما تربويا مختلفا يزرع في النشء الجديد مهارات التفكير الناقد والتمحيص والسؤال ويعلي من أهمية أخلاقيات العمل. إن كل ذلك يَصْب في وعاء البناء المؤسسي للدولة، فلا خلاص لنا إلا من خلال هذا الجهد.
هذا ما يجب أن تتجه الجهود إليه، من بناء لدولة مؤسسية حداثية، بدلا من الالتفات لتوافه الأمور بينما تتصدع مؤسساتنا من الداخل. حان الوقت للتوقف عن البحث عن الشخص المعجزة والعمل لبناء الوطن المعجزة، وطن المؤسسات والنظم والقانون.
الغد - الاربعاء 7-11-2018