لا نزهة مع فلسطين
في الأول من تشرين الثاني (نوفمبر) الحالي، منع الاحتلال الإسرائيلي، سوزان أبو الهوى، الروائية الفلسطينية التي اشتهرت بعد روايتها بالإنجليزية، "صباحات في جنين"، التي تُرجمت إلى 27 لغة، من دخول بلدها. ورفضت سوزان الأميركية الجنسية، المغادرة سريعاً، فكانت النتيجة سجنها 32 ساعة، لحين فصل القضاء بأمرها، في زنازين في مطار اللد، (الذي يسمونه بن غوريون)، وهي زنازين سيئة قذرة السمعة والرائحة.
فيما كتبته بعد إبعادها عن فلسطين، تحدثت، عمّا يحصل لجثث الموتى، وقدمت فهماً فلسطينياً آخر: "أرضنا تخضبت عبر عصور بجثث أجدادنا، ورُويت بدموعهم وبدماء أبناء وبنات فلسطين الذين دافعوا عنها".
على هذه الخلفية جاءت سوزان للمشاركة في مهرجان أدبي يجول فلسطين. وعلى هذه الخلفية منعها الإسرائيليون وسجنوها، مع ادعاءات أنها تعاملت معهم في محاولة دخول أخرى لفلسطين عام 2015، بوقاحة، وأنها بلا تأشيرة.
تبيّن للإسرائيليين هذا الأسبوع، أن محاولة الدخول للقتل أو الاعتقال في غزة والعودة ليس نُزهة، وأنّ هناك فدائيين-مجاهدين، يعرفون التعامل معهم. وسيتبين لهم، أنّ اللعب مع سوزان ليس نزهة، تماما كما لم يكن مع كُتّاب كثرٍ اغتالوهم أو حاولوا، أو حاربوهم، بدءا من غسان كنفاني، وأنيس صايغ، ومحمود درويش، وإدوارد سعيد، وغيرهم.
يصعب عليها أثناء سجنها عدم التفكير بغزة، كيف كانت تفكر بالقناصة الآتين من أوروبا ودول كثر، يطلقون الرصاص على الناس لأنها تسير باتجاه الدّيار التي أخرجوا منها قسراً.
بعد رفضها المغادرة، فتشوها وأخذوا هاتفها وأقلامها، وأرسلوها لزنزانة المطار، ولكنها كانت قد احتاطت وخبأت في ثيابها هاتفا وأقلاما، فصوّرت من داخل الزنزانة وأرسلت الصور.
اتهموها بالإعلام بأنّها تحدثت بوقاحة.
على الأغلب شعروا أنها وقحة عندما منعوها في العام 2015 من الدخول بحجة عدم تقديم معلومات كافية عن زيارتها، فلم تتذكر أسماء أبناء عمومتها وزوجاتهن وأزواجهن، فردت بعد منعها: وهل لكم أبناء عمومة هنا؟ كم؟ منذ متى؟. لا شك أنها حقائق "وقحة".
كتبَت على حائط زنزانة المطار كلمات "وقحة"، من نوع "فلسطين حرة"، و"إسرائيل دولة أبراتهايد"، و"سوزان أبو الهوى كانت هنا وهربت قلم رصاص إلى الزنزانة".
يحتاط أستاذ جامعي من بيرزيت، دائما بكتاب في حقيبته، فإذا أوقفوا الباص أثناء التوجه للأردن على الجسر، قرأ. وإذا قالوا له انتظر على الكرسي، قَرأ، وهو يدرك نظرات ضباط الأمن الإسرائيلي المستهجنة لهذا الهدوء. وفي مرة عندما كان ينتظِر دخوله لغرفة التحقيق في مخابرات الجسر، صدف أنّه كان يقرأ مذكرات وسام رفيدي عن سنوات اختفائه التسعة من الاحتلال وهم يلاحقونه.
منعوها من جولة في مهرجان أدبي، يَلُف فلسطين، ويجمع أدباء من العالم، يتحدثون عن الإنسان، وليس بالضرورة عن فلسطين. ولكن منعها من التجول "الأفقي" فوق الأرض، لم يمنعها من التجول العمودي أثناء السجن في الزنزانة، فقرأت سوزان كتابين، عن فلسطين، أحدهما كتاب نور مصالحة، عن تاريخ 4000 سنة في فلسطين. ثم تذكرت طفولتها في الطور في القدس، وتساءلت هل كان هؤلاء الجنود الذين منعوني قد وصلوا هذه الأرض عندما كنت ألعب، أم جاؤوا بعدي؟ عندما دخلَت دارا للأيتام في المدينة، وكانت أمها تدرس في ألمانيا ومُنِعَت من العودة لفلسطين، فولدت ابنتها في الكويت العام 1970، ثم أعيدت سوزان لفلسطين. تخلت هي جزئيا، عام 2002 عن صناعة الدواء التي تخصصت بها لتكتب قصص أربعة أجيال من لاجئي مخيم جنين، بدءا من إحدى أجمل قرى الأرض، (عين حوض)، جنوب حيفا.
كتبَت، بعد إبعادها: "سنجد في جروحنا غير المندملة قوة، سنكتب منها قصصنا، نغني أغانينا ونَدبِك بالدبكة. من هذه النُدوب سنُخرِج فنّاً، وسنملأ أقلامنا حبراً في هذا الفضاء، وسنُشهِر انتصاراً وقبضاتٍ قويّة".
اللعب مع الفدائيين، كما في غزة، له جوابُ رأوه هذا الأسبوع بالفشل والثبور وبصرخاتهم ضد بعضهم، واستقالاتهم من الحكومة.
اللعب مع الروح والعقل الفلسطينيين، له جوابه الممتد: إذا منعتم الفلسطيني من التجول أفقياً في بلده، يصبح جرحه عمودياً غائراً في روحه، وتجعلوه يتنقل عميقاً في تاريخ وقصص بلاده؛ في المعلومات والأفكار والناس والغناء والدبكة والتطريز والروايات، وهذا سيحفظ فلسطين.
ما يزال في الرد الفلسطيني الكثير مما سيأتي.
الغد- الجمعة 16-11-2018