تصوراتنا حول العدالة
ثمة عوامل جديدة تسهم بشكل مباشر وأحيانا غير مباشر في بناء تصوراتنا وإدراكنا للعدالة لعل أبرزها التحولات الحادة في الاقتصاد والسياسة ، اليوم يساهم الاستهلاك النهم للتكنولوجيا وقوة الاتصال في تغير واضح في الصورة الذهنية التي يتبناها الناس حول العدالة بعضها إيجابي يجعل من الأفراد والجماعات يتمتعون بقدرة وقوة أكثر في معرفة ما يجري وتمكنهم بالتالي عن التعبير عن التصورات الجديدة أي أنهم يصبحون يمتلكون جزءا ، ولكن الطريقة التي يستهلك بها الأفراد هذه التكنولوجيا إلى جانب طبيعة التحولات القاسية قد تلحق بهذه التصورات الكثير من التشوهات وقد تجعل معركة البحث عن العدالة غير عادلة حينما تخضع إلى قوانين الأقليات الصارخة التي تعمل في أحيان كثير على إنتاج المزيد من التهميش .
وجد القانون في الأصل وعبر التاريخ وفي كل المجتمعات من أجل حماية حقوق البشر؛ وصلب مسألة الحقوق كرامات الناس ووجد القانون لحل الخلافات ومنع اختطاف القوة التي يفترض أن تحتكرها الدولة أي صيانة الكرامة من جور التعسف بالقوة ، ووجد القانون أيضا لإقامة العدل ليس في حل النزاعات وحسب. بل نجد في الدولة التي تصون القانون وتبني مؤسساتها عليه وتنشئ نخبها على احترامه تعمل آلة الدولة من تلقاء نفسها في حماية حق الناس في الوصول إلى فرص عادلة ومنصفة وفي التنمية والخدمات والعمل ما يعني جوهر الكرامة الإنسانية .
تطور إدراك الأردنيين للعدالة على مدى العقود الثلاثة الأخيرة بسرعة يمكن رصد ثلاث مراحل ؛ الأولى : المعادلة التقليدية في تقاسم الأدوار بين من يمتلك السلطة ويتحكم في توزيع الموارد العامة وبين من يمتلك الأسواق ويتحكم بالثروات تراجعت هذه المعادلة ولكنها لم تنته، والثانية: التقاسم الوظيفي الظالم بين طرفين الأول تحالف سياسي اقتصادي يمتلك السلطة والثروة والثاني مجتمعات كفاف تقبل سياسات التحيز الإيجابي المحدودة التي نالتها هذه المجتمعات في مجالات محدودة مثل التعليم الجامعي وبعض الخدمات المحدودة والتي خلقت حالات من التكيف قصير المدى ، ما تزال هذه المرحلة قائمة ولكن الوعي بما أحدثته من تشوهات ازداد بقوة ، الثالثة : اليوم، يدرك الجميع وبدرجات متفاوتة أن هذه التشوهات لا يمكن أن تستمر أكثر من ذلك، ولكن لم يولد النموذج الجديد بعد ، المهم اليوم أن ثمة خطوطا مشتركة بين النخبة السياسية وبين المجتمعات المحلية وبين بعض نخب السوق تدرك الحاجة الماسة لترسيم خطوط جديدة لممارسة العدالة أكثر من أي وقت سبق .
على مستوى المجتمعات المحلية التي طالما تضررت أكثر من غيرها من هذه التشوهات انتقل الناس في المحافظات على سبيل المثال من العلاقة الريعية التقليدية إلى سؤال الإنصاف ومؤخرا باتت التعبيرات الاجتماعية والسياسية المحلية أكثر وعيا بالتحول نحو وعي الحقوق بمعنى مغادرة فكرة الريعية والناس القصّر وثقافة الريع التي تكرست بممارسات رسمية وشعبية ليس لأهداف اقتصادية اجتماعية تصب في عدالة التنمية، بل لأهداف سياسية بحتة.
إن السنوات القليلة القادمة سوف تضغط بشكل غير مسبوق على الطريقة التي ندير بها تصوراتنا للعدالة مع ازدياد الضغوط الاقتصادية والصدمات التي تواجهنا من الإقليم ومع استمرار المزيد من الهشاشة الاجتماعية ، النقطة المضيئة المهمة أن أغلب من هم في الطبقة السياسية وفي المجتمع والأسواق يدركون حجم الأزمة والجميع يدركون أن مصلحتهم في تجاوزها والأغلب يعي بشكل أو بآخر دور التشوهات الاجتماعية والاقتصادية في كل ما يحدث ولكن لا أحد لديه حل ، ما يلح بقوة على حجم ما نحتاج إليه ممارسات وثقافة جديدة تعيد ترسيم فهمنا للعدالة ؛ أي الوعي القادر على المحاكمة الرشيدة للسياسات العامة .
الغد - الاثنين 26-11-2018