"أعطنا خبزنا كفاف يومنا"
لا أقف مرّة على منسف الا وتفسد المتعة الفائقة وخزة ضمير بسبب الهدر الهائل للطعام خصوصا في المناسبات الواسعة، لكن الهدر في الطعام لا يقتصر على المنسف فكل نظامنا في الأكل والتضييف غير عقلاني وينطوي على هدر هائل حتى عند غير الميسورين لاعتبارات اجتماعية قاهرة.
ولا أذهب مرة إلى الأسواق الكبيرة الا ويصيبني ضيق من الكم الهائل المعروض من البضائع كأنها مكومة على صدري، وأتساءل أين يذهب فائض السلع من كل نوع؛ الملابس، الأثاث، الكهربائيات والإلكترونيات والإكسسوارات، مواد البناء، مواد التجميل، السيارات في المعارض، وكل شيء آخر لن يستهلك الناس إلا جزءا يسيرا منه؟ يوجد هذا الفائض الهائل في كل شيء بينما الأسعار تبقى فوق قدرة الفقراء وأصحاب الدخل المتدني، ولعل حاجة الناس جميعا يغطيها جزء من فائض المعروض من السلع أو الخدمات. وفي المبيعات فإن السعر للبضاعة بالجملة أو التجزئة يأخذ بالاعتبار كل الكلف ومنها طبعا كلف الترويج والدعاية وأن نسبة من السلع لن تباع.
حسب المختصين في علم الغذاء فالناس تستهلك أضعاف حاجتها الحقيقية من الطعام وهذا سيئ من وجهة نظر إنسانية مثالية لكن الاقتصاد الرأسمالي يقوم كله على تحفيز الاستهلاك والمزيد من الاستهلاك ونجاح كل الصناعات وكل السلع كبيرة وصغيرة يقوم على زيادة الاستهلاك، وأصبحت السلع هي التي تخترع الحاجة اليها وليس العكس. ولم تعد الأدوات المعمّرة ميزة ايجابية وتصنع الشركات كل عام موديلات جديدة تنافس نفس موديلاتها الموجودة في السوق وأيضا تنويعات على الموديل الواحد تنافس بعضها وهذه اصبحت سياسة ثبت نجاحها في زيادة الاستهلاك. والآن يغير معظم الناس الموبايل بموديل أحدث كل عام بل وأكثر من مرة في العام وربما قلة يحتفظون مثلي بنفس الجهاز لسنوات ما دام يفي بالغرض.
لم نعد نتوقف لنسأل انفسنا عن صحة هذا اللهاث الاستهلاكي وهناك تسليم عام بواقع الحال الذي لا يمكن الوقوف بوجهه ولا جدوى من مساءلته. وبالنسبة للاقتصاديين ورجال الأعمال فمن البديهيات ان تحفيز النمو يعني التوسع في الطلب وزيادة الاستهلاك وكنا في المقال السابق قد تناولنا هذا الموضوع وطرحت السؤال في موضوع النمو إذا ما كان ثمة طريق بديل ممكن غير الطريق التقليدي. وأعرف ان الموضوع يبدو نظريا كثيرا ولن يثير شهية مختصين للخوض فيه فأعود الى الفكرة الإنسانية التي يلمسها كل واحد فينا ويود لو تتم مواجهتها وحلها.. كيف نعقلن الاستهلاك ونقلصه إلى الحدود المعقولة ونجير الفارق لصالح الأكثر فقرا وأشد حاجة ولا أتحدث عن الطعام بل عن كل شيء.
هذا يحيلنا لأول وهلة الى العمل الخيري والمبادرات المعروفة في هذا المجال أو الى مبادرات مثل الوثائق الاجتماعية التي تتعهد بالتخلي عن بعض العادات في الاعراس والعزيات. في الحقيقة أنا اتحدث عن ثقافة عامة وممارسة تسود اجتماعيا وتحل نصف مشاكلنا بطريقة مختلفة. لكن كيف نفعل ذلك؟ فلنفكر معا.
الغد - السبت 1-12-2018