أربع قوى وخمسة دروس أيضًا
اختصر رئيس الحكومة، الدكتور الرزاز ، الاتجاهات التي تتحكم في ملف الاصلاح بـ(4) قوى اساسية : قوة تعارض وتتحفظ وتصر على المقاومة حفاظا على مصالحها ، وقوة تدفع نحو تحقيق الاصلاح لكن بموجب وصفة خاصة تحتكرها ، وقوة(هي الاخطر) تشكل جبهة عريضة من المحبطين الذين فقدوا الامل بالاصلاح ودعاته ، واخيرا قلة من المؤمنين بالاصلاح والمتعلقين به والمصرين على تحقيقه بمنطق المشاركة الفاعلة ودفع الثمن المطلوب.
لا تعليق لدي على هذا التصنيف الصحيح الا من زاوية واحدة : وهي ان الغائب المهم فيما ذكر هو سؤال لماذا حدث ذلك ؟ لا اتحدث هنا عما اصاب المجتمع من تحولات انتهت به الى هذا المشهد «التصنيفي»، وانما عما اصاب الدولة ايضا من انحرافات انتهت الى انتاج مجتمع غالبيته من « المحبطين».
المهم هنا ان نتعلم مما حدث ، وهنا استأذن بتسجيل (5 ) دروس يمكن ان نستفيد منها، اذا اردنا (اعني الدولة والمجتمع ) ان نخرج من حالة الاستعصاء التي ما زلنا نراوح فيها منذ سنوات الى حالة من الفهم يمكن ان تعيننا على استرداد جزء من العافية..
الدرس الاول هو ان حركة الشعوب التي انطلقت في عالمنا العربي لم تتوقف ، وبالتالي فان عجلة التغيير
ما زالت وستبقى تدور، وربما تأخذ اشكالاً مختلفة كما حصل في الثورات الغربية التي استمرت لعشرات السنوات ، لكن المؤكد ان انعطافة الشعوب العربية التي كانت نتاج استحقاق تاريخي ما تزال تسير في اتجاه واحد، وهو اصرار الشعوب على فرض ارادتها واسترداد شرعيتها والوصول الى حقوقها مهما كان الثمن.
الدرس الثاني هو ان التوافق بين النخب السياسية مهما كانت اختلافاتها عميقة، مسألة ضرورية للعبور بالتغيير نحو ملاذات اكثر استقراراً، واذا كانت تجربة «تونس» التي بدأت قبل الثورة بعشر سنوات وتمخضت عن ميثاق للحكم بين الفاعلين في المجال السياسي قد أسهمت في تبريد حدة الاختلافات والصراعات بين الفرقاء الذين افرزتهم صناديق الانتخاب، فان غياب هذا التوافق بين النخب في بلدان اخرى عزز من حدة الاستقطاب وجرّ المجتمع الى ما نشاهده من حروب ومواجهات وصراعات.
أما الدرس الثالث فهو ان سطوة الاعلام وقدرته على قلب الافكار وتغيير الحقائق وتجييش الرأي العام أصبحت واقعاً لا يمكن استثناؤه عند فهم ما يحدث، فقد بدأت الصراعات والانقسامات في معظم بلداننا العربية على شاشات الاعلام وصفحات الصحف، ثم انتقلت بسرعة الى المجتمع، ورغم ان وزن بعض القوى شعبياً كان متواضعاً جداً، الا ان سيطرتها على المنابر الاعلامية أتاح لها المجال واسعاً للتأثير وتغيير الصورة واقناع الناس بوقائع مبالغ فيها.. وربما ليست صحيحة احياناً.
الدرس الرابع هو ان الحكم في عالمنا العربي، ما زال هدفاً وليس مجرد وسيلة او تجربة، وربما يعود ذلك الفهم لتراث طويل استند لمقولات فقهاء وعلماء وخلفاء حول السلطات والدولة التي تملك العصا، والخليفة الذي بيده مفتاح كل شيء؛ ما وّلد لدى الانسان العربي – مهما كانت اتجاهاته – فكرة ان من لا يحكم لا يستطيع ان يفعل شيئاً، وان مفاتيح السلطة هي الشرط الاساس لدخول الجنة في الدنيا والاخرة، واعتقد ان هذه الفكرة خاطئة وغير دقيقة، صحيح ان الوصول للحكم هدف مشروع لادارة شؤون الناس واقامة الدولة العادلة، لكن الصحيح ايضاً هو انه مجرد وسيلة لا غاية، وانه ليس المفتاح الوحيد للتغيير والاصلاح وخدمة الناس، ذلك ان المجتمع في التجربة العربية الاسلامية هو الذي حمل مشروع النهضة بعد ان ترامت الدولة (السلطة) وتراجعت، وحسبنا ان نشير الى موضوع الوقف الذي كان الذراع الطولى للتنمية في عالمنا العربي والاسلامي على امتداد قرون، إذْ كان «الواقفون» يعملون من داخل المجتمع، لا من داخل السلطة، وإذْ كانت الدول مشغولة بالفتوحات والحروب فيما تفرغ المجتمع بقواه المختلفة للعمل وتمكين الناس من الحياة الكريمة.
اما الدرس الاخير فهو ان مجتمعاتنا تغيرت حقاً، وبالتالي فان محاولة اعادتها الى بيت الطاعة أصبح من المستحيلات، والتغيير هنا لا يتعلق فقط باستعادة الوعي نحو الحقوق التي سلبت منها على امتداد قرون طويلة، او عدوى الاحتجاجات والتحولات التي انتقلت اليها وولدت لديها « حالة ثورية» يصعب محاصرتها، وانما يستند هذا التغيير الى ميراث تاريخي طويل جداً، شكل «خزاناً» من التجارب التي يحاول الناس اليوم امتثالها واعادة هضمها من جديد..
الدستور - الاثنين 3-12-2018