تحرش جنسي
لو كتب لك أن تتجول في غرب عمان هذه الأيام فستقع عيناك على العشرات من اللافتات التي تحذر من التحرش الجنسي وتتحدث عن خطورته وتجريمه وأهمية مقاومته وآثاره على الضحايا ومستقبلهم والوقوف في وجه من يمارسونه. الحملة الواسعة التي تقوم عليها المنظمات النسوية والحقوقية مهمة وربما ضرورية. لكن السؤال الأكبر والاهم يتعلق بحجم هذه الظاهرة ومدى انتشارها وفيما اذا كان المجتمع الاردني قادرا على التعامل معها مؤسسيا وثقافيا.
في ثمانينيات القرن الماضي كنت من بين الضيوف الدائمين على الندوات التلفزيونية والمؤتمرات العلمية والمحاضرات الجامعية والتحقيقات الصحفية والتلفزيونية التي تتناول قضايا العنف واساءة المعاملة والتحرش الجنسي وغيرها. كانت غالبية الفعاليات تحظى برعاية الشخصيات المؤثرة وتتصدر الاخبار باعتبارها ممارسات غريبة عن مجتمع يتفق فيه الناس على ما هو مقبول ونبذ ما هو مرفوض. في تلك الأيام حققت العديد من النساء شهرة محلية وعربية وعالمية واسعة من خلال الريادة في تبني هذه الموضوعات والاصرار على استخدامها كمنظور لتقييم الواقع الاجتماعي والحقوقي والسياسي للمجتمع. بعض من النسوة اللواتي اكتسبن صفة الريادة في طرح هذه القضايا رحلن عن الدنيا والبعض الاخر استبدلنها باهتمامات سياسية وتنموية واجتماعية دون أن يتغير واقع المرأة كثيرا.
الجهود الكبيرة والموارد التي استخدمت في التوعية والدراسات واطلاق الحملات واعداد التقارير ما تزال غير معروفة الأثر على حجم وابعاد الظاهرة ونوعية حياة الضحايا ومستوى معاناتهم. الطبيعة العشائرية للمجتمع ونظرته للتحرش عوامل قللت من انتشار الظاهرة وشكلت رادعا قويا لكل من قد يفكر في التحرش أو يجرؤ على ممارسته.
في الدراسات التي اجريت حول العنف والمشاجرات في الجامعات ظهر التحرش الجنسي في مقدمة العوامل التي أدت إلى انفجار أحداث العنف وتطورها. في الثقافة الأردنية تستطيع المرأة استخدام قوة العشيرة والعزوة كرادع وضمانة للحد من أية محاولات لاكراهها على تحمل التعليقات والايماءات والأفعال التي قد يقوم بها المتحرش ضمن التعريف الثقافي الأردني للتحرش.
في حالات كثيرة يبالغ البعض في الحديث عن انتشار وحجم الظاهرة في المجتمع الأردني. الأسباب الكامنة وراء هذه المبالغة مرتبط بتبني الناشطين لتعريفات ومقاييس نشأت في مجتمعات فردية ووجود امكانية التمويل الاجنبي والمحلي لمثل هذه الانشطة.
خلال الأيام القليلة الماضية غطت الاعلانات والشعارات والاغاني والومضات التي تتحدث عن التحرش الجنسي مساحات واسعة من الفضاء الإعلاني والإعلامي الأردني. لا أحد ينكر وجود الظاهرة وممارسة البعض لها، لكنني لا اعتقد ان حجمها يبرر كل هذا الصخب والضجيج.
تكديس اللافتات التي تتحدث عن التحرش الجنسي على مداخل الانفاق والدواوير والساحات العامة لا ولن يسهم في الحد من الظاهرة بمقدار ما يعطي الانطباع بسعة انتشارها. في الوقت الذي يشكو فيه الناس من الجوع والبطالة وارتفاع الأسعار توحي عشرات الشعارات والإعلانات التي يشارك فيها نجوم الفن والإعلام بان التحرش الجنسي قد وصل إلى معدلات يصعب تخيلها وان المتحرشين يقومون بفعلهم لنقص في المعلومات أو جهل بالقوانين …
في الأردن هناك العشرات من المشاكل لكن التحرش الجنسي اقل حجما من الجوع والفقر والنظافة الشخصية وارتفاع الأسعار والفساد والاستفزاز. تحية لكل المنظمات الساعية لرفع مستوى الوعي والحريصة على تسريع استجابتنا للظواهر الخطيرة قبل فوات الأوان.
الغد - الاثنين 15-12-2018