«تهدئة» غزة و«تثوير» الضفة
ثمة ميلٌ فلسطيني «محمود» لدفع الخلافات البينية جانباً، عندما تندلع مواجهات أو معارك كبرى مع الاحتلال... اليوم، يبدو المشهد الفلسطيني متعاضداً على جبهات المواجهة، سواء على خطوط التماس في الضفة الغربية، أو في أروقة الجمعية العامة للأمم المتحدة.
لكن ذلك، وبخلاف «النبرة الحماسية النزيهة» التي تتدفق من ثنايا تصريحات المسؤولين وبيانات الفصائل، لا يخفي أو يقلص فجوة الانقسام و»انعدام الثقة»، أقله بين الفصلين القائدين للعمل الوطني الفلسطيني، بعد أن فقدت حركة فتح، دورها القيادي، الفريد والمتفرد، في قيادة الحركة الوطنية الفلسطينية، لصالح «ثنائية» جديدة، تتحكم بمسارات هذه الحركة ومآلاتها.
في «العقل الباطن» لفتح وسلطتها في رام الله، ثمة قناعة، تشفُّ عنها تصريحات ومواقف تصدر عن ناطقين باسمها، مفادها: أن موجة العمليات العسكرية الأخيرة في الضفة، إنما هي من «فعل فاعل» من حماس، وأن العمليات الثلاث الأخيرة في محيط رام الله، لا تنتمي إلى نمط العمليات الفردية العفوية، وغير المنظمة، وأن لحماس التي تستعجل «التهدئة» في غزة، وتسعى في تثبيت أركانها وقطف ثمارها، مصلحة في «تثوير» الضفة الغربية، أقله لدرء الاتهام بالتخلي عن «نهج المقاومة»، وإحراج فتح والسلطة، توطئة لإخراجهما، سيما بعد تزايد «التسريبات» من رام الله، التي تتحدث عن موجة جديدة من الإجراءات العقابية لحماس وغزة، من بينها حل المجلس التشريعي.
لست أستبعد هذه الفرضية، بل وأرجحها... وإن صحت التقديرات بهذا الشأن، فإنها لن تكون المرة الأولى التي تعمد فيها حماس لاستخدام تكتيك العمليات والمقاومة، لكسب التأييد الشعبي من جهة، وإحراج فتح والسلطة والمنظمة من جهة ثانية ... ودعونا نستذكر مسلسل العمليات الانتحارية في أواسط تسعينات القرن الفائت، والذي كان – من بين أسباب أخرى – سبباً في وضع مسار أوسلو والقائمين في أضيق الزوايا، بل وفي استدراج إسرائيل لتوجيه أعنف الضربات للسلطة وأجهزتها ومؤسساتها، بوصفها «العنوان» في حينه، قبل أن تتوزع العناوين، فتصبح حماس هي «العنوان «في غزة، وتظل فتح هي «العنوان» في الضفة.
أصحاب هذه الفرضية تستوقفهم المفارقة التالية: كيف يمكن تفسير سعي حماس اللاهث لتبيت التهدئة في قطاع، وربما إلى أمد طويل، وبرغم المخاطر السياسية والوطنية المحيطة بكل ما يحاك في غزة ولها وحولها، وفي الوقت نفسه، تسعى لتصعيد المقاومة المسلحة في الضفة الغربية؟
هؤلاء لا ينتظرون جواباً من أحد على التساؤل/المفارقة السابقة، فهو يرون أن حماس إذ تفعل ذلك، فإنها ترد «الصاع صاعين»، وبأقل قدر من الخسائر، إن كان هناك أي منها، لضغوط الرئيس عباس وإجراءات فتح العقابية، وأن السلطة ستجد نفسها في حرج شديد، بل في مأزق خطير، إن استمر العمل بهذا التكتيك، في الوقت الذي تكون فيه حماس قد شرعت في مراكمة التأييد الشعبي والبرهنة على أنها «اللاعب الرئيس» ليس في غزة وحدها، بل وفي الضفة الغربية كذلك.
والحقيقة أن حركة حماس، ليست الأولى في اللجوء إلى مثل هذه التكتيكات، فالرئيس الراحل ياسر عرفات، كان يُقدِم على إشعال جبهة جنوب لبنان مع إسرائيل في كل مرة كان يستشعر فيها ضغطاً غير محتمل، من الأشقاء الأقربين أو «الأبعدين» ... المواجهة مع إسرائيل وقتالها، ينجح دائماً في رفع الضغوط وتحقيق المكاسب.
في ظني أن «منحنى المنفعة الحدية» لحماس من تكتيكها الجديد: «تهدئة غزة وتثوير الضفة»، سيبلغ ذروته طالما أن إسرائيل سترد باستهداف السلطة واستباحة مناطقها ... لكنه سيبدأ بالانحدار والهبوط، عندما تضع إسرائيل «عنوان» حماس في غزة، على لائحة «بنك الأهداف» التي ستضربها ردأ على العمليات الأخيرة، أو ما قد يليها، وهو أمرٌ نعتقد أن إسرائيل ستتريث حياله وستردد طويلاً قبل أن تقدم عليه، لأن مصلحتها في «تأبيد الانقسام»، وتحويله إلى انفصال، ستظل قائمة.
الدستور - الاحد 16-12-2018