خرافة : لا جدوى من الحوار
انشغلنا في السنوات الماضية ( وربما حتى الآن) بالدعوة للحوار مع الآخر، ومع انها كانت دعوات مطلوبة لاعتبارات نعرفها، الا انها سرقت منا اولوية الحوار مع انفسنا، والمشكلة - بالطبع - ليست في اننا نعاني من ضيق في الوقت او عدم الرغبة في الحوار، او قلة في الهموم والمشكلات التي تحتاج الى مزيد من الحوار والتفاهم للوصول لما امكن من المشتركات والحلول والجوامع، وانما لاحساسنا - احيانا - بان ثمة لا جدوى من الحوار وهو حكم مسبق وربما غير صحيح، او لزهدنا فيه اعتقادا من البعض ان ثمة ابوابا اخرى اسرع واضمن يمكن العبور منها او استخدامها لمواجهة قضايانا الملحة.
لا شك بان لنا تجربة قريبة، شهدنا فيها انواعا غريبة من السجالات التي انحدر فيها مستوى الخطاب وغابت فيها تقاليد الحوار وقد احتشدنا - وقتها - لادانة هذا الاسفاف اللفظي، وهي مرحلة انتهت، وكان يفترض ان نتعلم منها، اول ما نتعلم، العودة الى طاولة الحوار والتفاهم، والبحث عما امكن من مشتركات، وتشخيص ما يهمنا من مشكلات والعمل - ما امكن - لاشاعة مناخات هادئة، تنقل رسائل الحوار وثقافته وآدابه من النخب الى الناس، ومن داخل جدران غرف اللقاءات الى افهام ووجدان المواطن، حيثما كان، بحيث يصبح اوكسجين غرفة الحوار النقي هو المتاح الوحيد للتنفس، والخيار الاسمى للتخاطب، والطاقة المتجددة والبديلة ايضا، لشحن ارادتنا او توجيه مواقفنا او تعبئة فراغنا وقت الغضب والانفعال.
لا يوجد مجتمع خال من المشكلات، ولا بشر لا يعانون من التوترات، ولا دول لا تواجه ازمات: سواء كانت سياسية او اجتماعية او اقتصادية، لكن - في المقابل - ثمة حاجة دائما لابداع ما يلزم من حلول ومعالجات وقبل ذلك امتلاك الشجاعة للاعتراف بما يحدث وتشخيصة، وهذه ليست مسؤولية فرد او جهة واحدة، وانما مسؤولية المجتمع كله، وآلية التفاهم عليه مرتكزها الاساس هو الحوار، فبالحوار يمكن للاختلاف ان يضمحل او يتلاشى، وللمختلفين ان يتحولوا الى شركاء، كما يمكن للانسدادات ان تنفتح امام الكثير من الخيارات، وللمناخات الشاحبة ان تخضّر وتشرق عن آمال وآفاق جديدة.
اعتقد ان افضل ما يميز بلدنا هو اعتماده الحوار كمنهج وكطريقة، فعلى الصعيد الخارجي نحن من اوائل من دعا وتبنى الحوار مع المذاهب الاسلامية والحوار مع الغرب ومثقفيه واتباع الاديان فيه، والحوارات البينية العربية لمواجهة ازمات اشقائنا الداخلية والخارجية، وعلى الصعيد الداخلي كانت لنا اكثر من تجربة ابرزها الميثاق الوطني، هذه التي نحتاج اليوم الى احيائها، وتجربة التواصل مع الناس، هذه التي دأب جلالة الملك عليها منذ عشر سنوات، وتجربة الابواب المفتوحة بين المسؤول والمواطن: هذه التي تراجعت في السنوات الاخيرة.
اليوم، نحن بحاجة الى الاستفادة من كل هذه التجارب لتدشين حوارات وطنية فاعلة، تتجاوز ما الفناه من شكليات، وتتغلغل بالبحث والدراسة في عمق ما نحس به من مشكلات وتعيد بناء الثقة بين الناس والمؤسسات وتردم ما نعانيه من قطيعة وفجوات، نحتاج الى حوار يفضي الى مصارحات ومصالحات، وحوار يصلح لأن يكون طاقة بديلة تشحننا بالانسجام بدل الصدام، وباللطف بدل العنف، وبأدب التعامل والخطاب بدل التنابز بالالقاب.
لا يوجد لدى احدنا وصفة اخرى جاهزة لمعالجة مشكلاتنا سوى العودة الى الحوار، وهو ليس مغلقا ولا مستحيلا، فقد جربناه وثبتت جدواه، واعتمدناه في بلدنا كمنهج وخيار، وما اكثر ما يدعونا جلالة الملك اليه، فهل بوسعنا ان نستعيده اليوم ونحصنه بما يلزم من تقاليد وآداب؟ هذا - باختصار - ما نتمناه.
الدستور - الجمعة 4-1-2019