السياحة
دخل السياحة تحسن هذا العام، وهو خبر طيب في ظل الركود الذي يضرب مختلف قطاعات اقتصادنا. لكن السياحة عندنا ليست بخير عندما نرى ما يحدث في دول اخرى. لقد دخلت العام الجديد وأنا في إجازة عائلية في ماليزيا ولا يستطيع المرء إلا أن يقارن ثم يتحسر. صحيح أن الطبيعة وهبت هذه البلاد جزرا وشواطئ خلابة وغابات استوائية ومناخا دافئا طوال العام، لكن “صناعة السياحة” لم تكتف بهبة الطبيعة بل صنعت العجائب بتدخل ارادة البلد وادارتها لتعظيم المردود وزيادة عدد السياح (كان الهدف 33 مليون سائح هذا العام وتم تحقيقه) وزيادة عدد الأيام التي يقضيها السائح وزيادة إنفاقه – برضى وقناعة بسبب اعتدال الكلفة وليس تشليحه بالأسعار الفاحشة وتطفيشه بالنصب والاحتيال.
الإنفاق على مقومات السياحة يستكمل ويعزز هبات الطبيعة والتاريخ. وسأضرب مثالا: لانكاوي واحدة من الجزر السياحية لكن لم يتم الاكتفاء بالمنتجعات والفنادق مع ان السياح قادمون للشاطئ الدافئ من بلدانهم الغارقة في البرد والثلوج. فمع الانشطة المرتبطة بالبحر مثل الرحلات بالزوارق والموتورات والتزلج وراء القوارب أو بالمظلات هناك منشآت داخلية كثيرة ترفيهية وثقافية تدخل تنويعا مفيدا للاقامة بكلف مقبولة جدا. مثلا هناك الحديقة الجيولوجية، ومعرض الكائنات البحرية، والجسر المعلق على عمود واحد في أعالي الغابات والتلفريك بانحدار هو الأكثر حدة في العالم وحتى هذا الأخير فلن تدفع تذكرة وتذهب 30 كيلومترا فقط لركوبه وهو أمر يبدو لي غبيا، بل يجعلون العملية ذكية ومبررة فعند قاعدة التلفريك يوجد قرية سياحية كاملة وبتذكرة واحدة (عشرة دنانير تقريبا) تستطيع أيضا ان تزور عدة اماكن ممتعة ومفيدة ثقافيا مثل الحديقة النباتية والحيوانية والرحلة في حديقة الديناصورات الافتراضية. ويكفي أن نتذكر أن تذكرة الدخول إلى البترا للأجنبي هي 50 دينارا في ظروف بائسة للخدمات ودون توفير أي فعاليات جاذبة على هامش الزيارة المرهقة في الجهد والوقت والمال.
عالمنا الافتراضي
صدقت تحذيرات خبراء وانهارت أسعار العملات الافتراضية “البيتكوين” على النت وحقق المتعاملون خسائر فادحة. لكن الأرباح والخسائر في هذه العملية تبدو غامضة وغير مفهومة مثل وجود هذه العملة نفسها كرمز ورقم على النت دون أي أصل مادي أو سلطة للاصدار كما هو حال النقد العادي وعملات الدول.
لكن هذا التراجع بعد صعود طويل وصاروخي ليس نهاية المطاف والعملة لن تختفي لأنها جزء من توسع العالم الافتراضي والاحلال الإلكتروني في كل المجالات. وقد بقي الأمر عندي عصيا على الفهم حتى قرأت شيئا في تطور المجتمعات والعلاقات والاقتصاد لأكتشف أن النقد الإلكتروني لا يختلف عن فكرة النقد كلها بانتمائها إلى العالم الافتراضي. فما الفرق في القيمة المادية لورقة ملونة بالأخضر ومكتوب عليها مائة دولار واخرى بنفس الحجم والوزن ومكتوب عليها دولار واحد وحتى أخرى بنفس المواصفات ليس مكتوبا عليها أي رقم ؟! لا فرق سوى افتراض متفق عليه. قيمة كل ورقة هي افتراضية بضمانة جهة الاصدار لكنها ايضا متذبذبة وفق وضع السوق. وكعملية مفترضة فهي اساسا تجري على المستوى التخيلي للدماغ البشري لتسهيل عملية التبادل ومراكمة الثروة وانتقالها من خلال الترميز للحيازة المادية والقرارات برموز معينة أكانت مكتوبة على الورق أو على شاشة الكمبيوتر، فعقولنا هي التي تفترض كل هذه العملية وتقرر معانيها وهي لا تختلف عن أول عملية من هذا النوع قام بها الإنسان قبل خمسة آلاف عام مع ولادة الكتابة بصك أول قطعة معدنية افترضها سند إثبات بضمانة الحاكم على تسليم صاع شعير.
الغد - الخميس 3-1-2019