لحظة الصحو الجميل
كان الفلاحون في الريف الأردني قبل عقود قليلة من الزمن يستبشرون بالغيث ويعربون عن فرحهم الغامر عندما ينهمر المطر وتسيل الأودية وتشقع المزاريب، ويتجمعون حول مواقد الحطب البدائية في الغرف الطينية الضيقة التي يطلق عليها (الخصاص)، وتكون أبوابها مشرعة، ولها نوافذ صغيرة مفتوحة على الدوام يخرج منها الدخان المتصاعد الممزوج برائحة الطبخ وصيحات الصغار.
عندما ينهمر المطر يتراكض الناس والأطفال يهرولون ليحموا أنفسهم من البلل، لأنه ليس من السهولة تبديلها أو تجفيفها، وتتراكض الحيوانات والطيور للبحث عن ملجأ أو بعض السقوف المتهالكة التي تقلل كمية البلل على الأقل، وتشكل هذه اللحظات قسطاً من الضيق لأنها تسبب الحشر الذي لم يتعود عليه الناس والحيوانات، فبيئة الريف تقوم على حياة الحرية والانطلاق الواسع والتلاقي المستمر مع عناصر الطبيعة والتواصل الدائم مع الكون الرحيب الذي لا يعرف الضيق ولا الانحشار.
لحظة الصحو وتوقف المطر تشكل لحظة انفراج بهيجة لكل الأطراف، فيخرج الأطفال يتقافزون فرحاً وسروراً، وهم يرقبون سيول الماء وخريرها وهي تتراكض نحو المنحدرات ويمتزج صراخهم وغناؤهم وهم يرددون أهزوجة الغيث المحببة :- (يا الله الغيث يا ربي ...... تسقي زرعنا الغربي) مع تغريدات الطيور وأسراب الدجاج الجائعة التي تبحث عما يسد جوعها في غمرة الانحباس السابقة، وينشأ من ذلك أنشودة كونية رائعة تحمل كل دلائل التوافق والتنسيق المدهش.
جلسات التجمع العائلي وقت الشتاء بين الصغار والكبار والأشقاء والأعمام و الجوار وبعض أهل الحي، تشكل دواوين علم و مجالس أدبية رائعة فما زلت أذكر طرق استثمار الوقت لهذا التجمع الاجباري الثمين، عبر إرسال مجموعة من الرسائل الثقافية والأدبية والاخلاقية والروحية؛ فيتم الاستماع أحياناً إلى قصص وروايات معبّرة مليئة بقيم الفروسية وخصال الوفاء والتسامح والمروءة، وبذل الجهد في انقاذ الآخرين وتقديم العون والغوث عند الاستحقاق، وأحياناً أخرى يتم إلقاء الأحاجي والحزازير الذكية، أو إلقاء القصائد البدوية والنبطية التي تدعو إلى مكارم الأخلاق ومحاسن العادات، ويتخلل ذلك فقرات من النكات والنوادر التي تستجلب الضحك وسرور القلب، مع تناول بعض المشروبات الساخنة (القهوة السادة والشاي الحلو)، وتكون الوجبة العائلية في مثل هذه الأجواء طنجرة عدس مرتبة، مع رؤوس صغيرة من البصل أو الفجل الذي يحوي قسطاً من الحرورة المعقولة.
ليس من باب الحنين إلى الماضي، وإنما من باب المقارنة مع المجالس العائلية لدينا في هذا الوقت، الذي يخلو من تمازج الكبار والصغار، ويخلو من تمازح الأشقاء والأعمام والأخوال والجيران، ويخلو من التفاعل الجمعي ومجالس الاستماع، وإنما نجد كل واحد صغيراً أو كبيراً يحمل هاتفه وعالمه الخاص، ويبتسم لوحده مع العالم الافتراضي، دون مراعاة لبناء منظومة القيم، أو صقل شخصيات الصغار، ودون استماع لقصص وروايات وأشعار، بل نحن لا نكاد نفرق بين نوبات الغيث ولحظات الصحو، ولا نكاد ندرك التغيرات الكبيرة في حالة الطقس إلّا من خلال الاستماع لنشرات الأخبار أو قراءة التوقعات والتنبؤات التي لم تعد مشوقة.
نحن يا جماعة الخير بحاجة إلى وقفات مراجعة، وبحاجة إلى جلسات دراسة جادة لأوضاعنا، وأوضاع عائلاتنا وأ|بنائنا، ومستقبل الأجيال القادمة، من أجل البحث عن إمكانية التكيف مع مقتضيات الواقع المعاصر دون الاخلال بحاجات النفس الداخلية، ودون غفلة عن القيم والبناء الروحي، ومساحات الجمال، ومقتضيات العيش المشترك بحده الأدنى .
جيل الكاتب ومن هو أكبر مني قليلاً ومن هو أصغر قليلاً يعيش المتناقضات الصادمة، والنقلات الضخمة الهائلة في الزمن، والانقلاب الكبير في عالم التواصل والتمازج المعرفي والاجتماعي، التي لم تشهدها الأجيال السابقة، ولا الأجيال اللاحقة، كتب علينا أن نعيش زمن المفارقة المذهلة.
الدستور - الاحد 13-1-2019