أخيرًا، سيصبح لتركيا «منطقتها الآمنة»
أخيراً، سيكون لأنقرة «منطقتها الآمنة» في شمال سوريا ... هذا ما تطلعت إليه تركيا منذ بداية الأزمة السورية، لكن الظروف عاندتها لأكثر من خمس سنوات، ولم تتمكن من الشروع في إخراجها إلى حيز التنفيذ إلا بعد أن أعطيت الضوء الأخضر من موسكو لتنفيذ عمليتي «درع الفرات 2016» و»غصن الزيتون 2018» ... اليوم، يبدو أن ثمة ضوءاً أخضر آخر قد أشعل، من واشنطن هذه المرة، لاستكمال المنطقة الآمنة ومدّها على امتداد الحدود شرقي الفرات.
المفاوضات التي تجريها أنقرة على مساري واشنطن وموسكو المتوازيين والمتزامنين، تستهدف: (1) توسيع هذه المنطقة في العمق السوري ما أمكن ... (2) تحديد طبيعة القوى المعارضة المسلحة التي ستتولى أمن المنطقة (بإشراف عسكري تركي) وإدارتها، وهنا لن تسمح تركيا لغير حلفائها بلعب أدوار رئيسة على امتداد الشريط الحدودي... (3) البحث عن غطاء دولي مناسب لإعطاء السيطرة التركية على هذه المناطق السورية، نوعاً من الشرعية التي تحتاجها، تركيا تفضل رعاية الأطلسي، وهي سبق أن طلبتها منذ بواكير الأزمة، بيد انها لا تمانع إن حصلت على غطاء أممي على شكل قرار من مجلس الأمن.
واشنطن حسمت أمرها، فهي ستوكل لتركيا من ضمن ضوابط وشروط، مهمة الأمن في شمالي شرق الفرات، وأهم هذه الشروط على الإطلاق، تفادي الاحتكاك بحلفائها من الأكراد، منعاً لحدوث مجازر وتصفيات في صفوف وحدات الحماية وقوات سورية الديمقراطية ... موسكو في المقابل، ومن باب الحفاظ على علاقات متوازنة مع تركيا وكل من دمشق وطهران، لن تمانع في منح تركيا شريطاً من هذا النوع، وإن كانت تبحث عن «مقابل» تحصل عليه، كأن يكون هناك تعاون تركي مع روسيا في محاربة جبهة النصرة في إدلب، والتي نجحت مؤخراً في توسيع نطاق نفوذها إلى ريفي حلب الغربي وحماة الشمالي.
هو إذن، توافق نادر بين موسكو وواشنطن، ذاك الذي انعقد حول المنطقة الآمنة ودور تركيا فيها، والمؤكد أن أنقرة ستسعى باستماتة، من أجل توسيع هيمنتها على هذه المنطقة، وتكريس تبعيتها لها، بوصفها مجالاً لنفوذها، ومدخلاً لتأسيس دورٍ كبير لها في ترتيبات الحل السياسي النهائي للأزمة السورية.
من بعيد ترقب إيران تطورات المشهد السوري، وهي لا تمتلك الكثير من الخيارات والبدائل في هذا الملف، فمن جهة أولى، تبدو بمسيس الحاجة لتركيا للإفلات من عقوبات واشنطن القاسية، والتملص من بعضها على أقل تقدير ... وهي من جهة ثانية، ليست بوارد الاستغناء عن موسكو وهي في ذروة مواجهتها مع واشنطن... والأهم من جهة ثالثة، أن لدى طهران القليل لتقدمه ميدانياً في مناطق الشمال والشمال الشرقي السورية، سيما بوجود قوات تركية وأطلسية في هذه المناطق، الآن وبعد الانسحاب الأمريكي من سوريا.
أما دمشق، التي نظرت لتركيا منذ بداية الأزمة، بوصفها خصماً مصمماً وطامعاً، فهي ستبقى على معارضاتها اللفظية العنيفة والصارمة لأي دور تركي في سوريا، ميدانياً كان أم سياسياً، وهي تعلم أن لتركيا حلفاء موثقين من أعدائها الأشد ضراوة: الإخوان وبعض الجماعات السلفية ... لكنها في الوقت نفسه، لا تمتلك من أمرها في هذه المناطق شيئاً، وهي ليست بوارد المقامرة بحرب مع تركيا أو بإحداث هزّة في علاقاتها مع الحليف الروسي.
إن الرهان الكبير الوحيد الذي ما زالت دمشق، تعقد عليه كثيراً من الآمال، إنما يكمن في علاقاتها «النامية» مع الحركات الكردية ... فإن تم التوصل لاتفاق، تسعى موسكو في التوسط لإنجازه، سيكون بمقدورها قلب الطاولة على رؤوس الأتراك والأمريكيين معاً، لكنه اتفاق مكلف، فسقف الأكراد ما زال عالياً، مع أن خياراتهم تزداد ضيقاً ... إن نجحت الدبلوماسية الروسية في تدوير الزوايا في مواقف دمشق والقامشلي، سيكون ذلك بداية لمسار تقويض السيطرة التركية على الشمال السوري، سيما إن انضمت ميلشيات وعشائر عربية في المنطقة، إلى هذه التفاهمات.
المؤكد الآن، أن تركيا ستحصل بعد طول انتظار على منطقة آمنة، لا نعرف حدودها ولا هوية إدارتها بعد، لكننا ومن وحي تجربتي جرابلس-الباب وعفرين، نظن ان تركيا ستلحق هذه المناطق إدارياً بالمدن والبلدات التركية على المقلب الآخر من الحدود، أما الإطار الزمني لبقائها تحت السيطرة التركية، فخاضع لجملة من التطورات المنظورة وغير المنظورة، ومن السابق لأوانه الجزم، بما إن كان «الترتيب الخاص» بهذه المنطقة، سيظل مؤقتاً أم سيصبح دائماً.
الدستور - السبت- 19--1-2019