السترات الصفراء والتغيير والأزمة الاقتصادية المنتظرة
لم تصدُقْ تلك التوقعات التي زعمت بأن حركة السترات الصفراء ( احتجاجات شعبيّة ظهرت بفرنسا في شهر أيار- مايو 2018 ) ليست سوى حركة عابرة وستنتهي ،على اعتبار أنها مجرد غضبة لسائقين تضرروا من ارتفاع اسعار المحروقات وطوروا لاحقا مطالبهم ، إذ تبين بأنها حركة من ضمن حركات سبقتها ثورات شعبية في أكثر من مكان في العالم بمن فيها العالم العربي .
المعطيات التي نطالعها يوميا وتتلبور وتترسخ تباعا تقول بأن كل النظريات التي زعمت رسوخ فكرة السوق الحر الناتجة عنه ديمقراطية ليبرالية ليس سوى أضغاث أحلام اصطدمت بالواقع المرير الذي تعيشه شعوب العالم ، جراء توحش الرأسمالية المتغطرسة ، والتي قلبت على أصحابها ظهن المجن فانطلقت ضدها الإحتجاجات عبر العالم على شكل تحركات اجتماعية ومن ثم سياسية تنشد التغيير ، ولكن تغيير ماذا ؟؟ .
القضية لا تتعلق بالحكام ، ولا بالنظم أو الطبقات السياسية ، بل بهؤلاء جميعا ، وبالنظام الرأسمالي نفسه الذي أوصل الشعوب الى هذا المستوى من العبودية لصالح الطبقة الثرية التي تنهب الأخضر واليابس ولا تترك لسكان الأرض إلا الفتات غير القادر على إسكات جوعهم ووقف مرضهم وبؤسهم وتوفير ما يحتاجه الإنسان من مقومات فطرية ، بعد أن تحول لمجرد آلة .
أمس السبت ، وخلال لقاءات أجرتها قنوات عالمية مع بعض محتجي السترات الصفراء في فرنسا ، قالت أحدى السيدات والبالغة بحدود السبعين عاما ، إنها وزوجها يشاركان في الإحتجاجات ليس لتغيير ماكرون فقط ، بل لتغيير النظام بأسره ، والخروج بدستور يعطي الشعب الفرنسي " الذي يلعب به السياسيون والشركات السلطة الأولى في البلاد " .. مضيفة بأن " أي ترقيع ليس سوى خداع للفرنسيين الذين سئموا النظام الديمقراطي الكاذب " والذي بموجبه يتم تقاسم ثروات البلاد بين بعض الأثرياء ، بعد ان أصبحت الثروة محصورة بأيدي ثلة قليلة من الجشعين ومصاصي الدماء .
من خلال تصريح هذه السيدة العجوز التي كان يقف زوجها إلى جوارها ، تتضح ببساطة حقيقة هذه الإحتجاجات وطبيعتها ، وقبل كل شيء أسبابها المتمثلة : أولا بتحالف النظم السياسية في الغرب مع الرأسمالية والإعلام ، ( لنا أن نذكر هنا مشروع القانون الذي يعمل عليه البرلمان الفرنسي لتجريم حركة السترات الصفراء ، وموقف مواقع التواصل وعلى رأسها فيس بوك في حجب النشاطات ودعوات التظاهر ) وثانيا : زيف الديمقراطية التي باتت صورية ولا تمثل الاغلبية ، وثالثا سيطرة عائلات وأفراد قدروا بـ 24 شخصا فقط على ثروات العالم وفق بعض القراءات .
وبغض النظر عن قوة هذه الحركة المتفاوتة من مكان إلى آخر ، إلا أن المطلب واحد ، وهو لم يخرج عما قلناه آنفا ، حيث شبعت هذه الشعوب من الظلم ، فاستلهمت في جوانب من تحركها أشكالا من ثورات الربيع العربي ، والتي كانت ملهمة للكثير من شعوب العالم في اسبانيا واليونان وايرلندا وايطاليا والولايات المتحدة التي تظاهر محتجوها ورفعوا شعارات باللغة العربية ( حركة احتلوا وول ستريت في العام 2011 ) بل وحتى اسرائيل التي تظاهر فيها نصف مليون شخص يحملون نفس المطالب وينادون بنفس الشعارات ، وكل ذلك بسبب إفلاس الرأسمالية وعدم قبولها شعبيا لا هي ولا أي نظام مجرب سبقها .
ومخطئ من يعتقد انه بالإمكان إخماد مثل هذه الحركات نهائيا برغم محاولات لجمها والتخفيف من آثارها والمضي بنفس السياق من دونها ، وذلك لأن الغرب بات ضعيفا ومقسما وفاسدا وشعبويا ومتطرفا ويبحث فيه كل عن مصالحه : فهذه بريطانيا تريد الخروج من أوروبا ، وهذه فرنسا تستدعي سفيرها من روما ، وهذا ترامب يعلن أمريكا أولا ، وهذه ألمانيا مقبلة ولأول مرة على عجز في موازنتها لهذا العام ، ناهيك عن أزمات اليونان واسبانيا ومديونية أيطاليا التي قد تعصف باليورو من أساسه بسبب مديونيتها التي تصل الى 2 ونصف تريليون دولار ، اي ما يصل الى 132 % من ناتجها الاجمالي ، حيث لم تعد هذه النظم قادرة على إخماد مثل هذه الحركات الشعبية ، مع التأكيد أن سياسة تخدير المجتمعات بنفس الأسلوب لم تعد مجدية ، فلا القوانين قادرة على ذلك ولا القيم إياها مقنعة لهذه المجتمعات التي " كفرت " بفساد الأنظمة السياسية والنظام الرأسمالي المتحالف معها .
عندما تأسس النظام الدولي قبل عشرات السنين ، كان هاجسه مراكمة الثروة والاستحواذ على الموارد في العالم من خلال تقسيم هذا العالم وهكذا كان ، أما اليوم فلم يعد هذا الأمر ممكنا بعد أن أصبح العالم متعدد الاقطاب ولم يعد هناك من قوة بإمكانها الهيمنة وفرض ما تريد ، ومع مرور كل هذه السنوات أخذت الثروة تتكدس شيئا فشيئا بين ايدي مجموعة صغيرة من الرأسماليين، وبتراكم ديون الدول لتصل بمجملها إلى 250 تريليون دولار وفق إحصائية 2019 ، ولعل هذا الأمر هو الذي سيفجر الأزمة الاقتصادية المنتظرة هذا العام أو الذي يليه والتي تعتبر أزمة عام 2008 مجرد هبة خفيفة مقارنة بما ستحمله العاصفة المنتظرة من ويلات على الاقتصاد العالمي .
لقد انحصر الصراع الآن بين مختلف دول العالم على النفوذ ، وسنشهد مزيدا من التفسخ والقوقعة التي ظهرت مخايلها في اليمين الصاعد بلا توقف ، ورأينا في الفترة الأخيرة كيف أن صندوق النقد الدولي والبنك الدولي لم يعودا يملكان من وسيلة للإستمرار سوى بمزيد من تشليح الشعوب وفرض الضرائب ورفع الدعم والخصخصة المنفلتة وما إلى هنالك من وصفات يعتقد كثيرون بأنها ستكون هي السبب في تغيير العالم أجمع وبأشكال مختلفة وليس فقط عالمنا العربي المغلوب على أمره من كل النواحي والمطموع بثرواته من كل الإتجاهات .
إن حركة السترات الصفراء ليست سوى شاخصة مرورية لقطار الأزمة الاقتصادية العالمية المنتظرة ، وللتغيير المرتقب بعد عقد أو عقدين من السنوات على الأكثر ، والقادم أدهى وأمر ! .
د.فطين البداد
جي بي سي نيوز