الشعب السوري
بعض المعلّقین التلفزیونیین في مصر أبدوا إعجابھم الكبیر باللاجئین السوریین الذین قادتھم الظروف لاتخاذ القاھرة ومدن مصر الأخرى موئلاً حتى تسترد الحیاة طبیعتھا في بلد الأصل. ویعقد ھؤلاء المعلقون مقارنات بین ھؤلاء اللاجئین من ناحیة، وابناء الشعب المصري من ناحیة أخرى. وقد أثارت ھذه المقارنات غضباً ُ لدى بعض الأحزاب والكتّاب المصریین. وأذكر أن مذیعة قد روت على شاشة إحدى محطات التلفزة المصریة أن عدداً من أبناء مصر یأتون إلى سیارتھا عند إشارة ضوئیة لكي یطلبوا الإحسان إما مباشرة، أو عن طریق التحجج بأنھم یبیعون شیئاً كاللبان، أو المنادیل الورقیة، أو الفل. ویقبل على سیارتھا شباب أو صبایا سوریات یحملن منتجات منزلیة مثل مقدوس الباذنجان، أو حلویات، أو خضاراً مقطعة مكیسة. ْ وقالت أنھا اشَترت ھذه المنتجات فوجدتھا في منتھى الجودة. وأحیاناً قالت لم أكن أرید الشراء، فتعرض المذیعة على البائعة مبلغاً من المال، فترفض الفتاة السوریة وتقول ”أنا أبیع، أنا لا أطلب إحساناً“. وتمضي المذیعة بالقول أنھا رأت الصبیة وأخوتھا بعد أشھر یعرضون بضاعتھم على عربة واقفة على جانب الطریق. وبعد ذلك بأشھر وجدت أنھم قد استأجروا دكاناً یعرضون فیھ بضائعھم. ھذا على الجانب الأیسر من الشارع. أما المصریون بائعو المنادیل والفل واللبان فما یزالون كما ھم. وتصیح قائلة: كیف یستطیع ھؤلاء اللاجئون الجدد على أرض مصر أن یحلوا ٍ مشاكلھم، ویتاجروا، والشعب صاحب الأرض راض بما اعتاد علیھ؟ ّ لشعبھ. فھو یقول أن السوریین قدموا اما مذیع آخر، فقد كان أكثر مدحاً للاجئین وأقسى انتقاداً لمصر خدمات جلیلة. فالمحلات التجاریة الفارغة في بعض ”المولات“ الكبیرة قد استأجرھا السوریون وأعادوا لھا الحیاة والزبائن. وكثیر منھم من بنى صناعات في مدینة (6-أكتوبر) ٍ حیث یوجد مبان صناعیة فارغة. وقال إنھم یقومون بالتصدیر من مصر، ویخلقون فرص عمل لھم. ویتساءل لماذا لا نقوم نحن بذلك؟
والواقع أن الشعب السوري شعب عریق ضارب في الحضارة. وھم تجار أبناء تجار، وغریزة البیع والشراء والمساومة مزروعة فیھم. وقد استمرت عائلات سوریة كثیرة تعمل في التجارة أباً عن جد على مدى عشرة أو عشرین جیلاً. أما أبناء مصر فمنھم التجار، وھم قلة بالنسبة لعدد السكان، ولكن الغالبیة عمالة زراعیة وخدمیة. ومع ھذا یجب ألا نقلل من إمكانات الشعب المصري. فالعمال الذین أتوا للأردن وبدأوا حیاتھم عمالاً في البناء والزراعة والخدمات، قد تحولوا مع الوقت إلى مقاولین، أو مقاولین في الباطن، أو إلى موزعین، أو سماسرة في أسواق الخضار، أو متعھدي مزارع، أو مدیري محلات تجاریة یقدمون لصاحب الملك المسجل الترخیص باسمھ مبلغاً من المال، ویحتفظون لأنفسھم بالفائض مھما كان (القطاع الریعي). ولكن المصري بطبعھ یحب بلده، ویفكر دائماً في العودة إلیھا. وباستثناء أصحاب رؤوس الأموال الكبار، فإن غالبیة المصریین یسعون خلف الدخل القابل للتحویل إلى بلدھم. ّ وبالعودة إلى السوریین، فقد قد ّ موا إلى البلدان التي ھاجروا إلیھا خدمات قیمة، ومنھا الأردن. فالسوري یبحث عن عمل مستقل بطبعھ، وإذا قبل بالعمل لدى الآخرین، فیفضل العمل لدى سوریین آخرین. وكذلك، فإن الجالیة السوریة في الأردن قد فتحت مئات المحال التجاریة، . وأقامت بعض الصناعات التصدیریة. ومنھم من یعمل في المھن الحرة سباكاً أو میكانیكیاً ویكفي أن نتذكر أن معظم أسر دمشق ومن بعدھا حلب كانت أسماء مھن مثل الطحان، والدقاق، والسروجي، والسقا، والصباغ، والحلواني، والشوربجي، والقلعجي، والخیاط، والحلاق، والصواف، والنجار، والحداد، والأتاسي، والكحال، والحناوي، والقباني، والنشاط، وغیرھا من مئات الأسماء. وقد برع الدمشقیون والسوریون في التجارة والصناعة الخفیفة والمتوسطة، وفي الصناعات ّ التقلیدیة. وبرعوا في صناعة الطعام. وھو شعب عملي مدبر، وواقعي. وكرامتھ تتحقق في عملھ لا في منصبھ. ولا یعیبھ طلب العیش بالعرق ویراھا خیراً لھ الف مرة أن یطالب الناس إلحافاً أعطوه أو منعوه. ولا یختبئ وراء قناع الكبریاء وھو یمد یده طالباً العطاء من الآخرین. اللاجئون عندما یھاجرون ویذھبون إلى بلاد أخرى یشعرون أن إقامتھم في البلد الآخر امتیاز لھم، أما أھل البلد فیرونھ حقاً. صاحب الامتیاز یرید تبریر حصولھ على ذلك الامتیاز فیعمل ویجتھد وینتج، أما من یعتقد أنھ صاحب حق یتحول إلى شخص مطلبي، یرید أن یأخذ قبل أن یقدم. شعب سوریة لا بد أن یستعید وطنھ وكرامتھ التي ھو جدیر بھا.
الغد - الاربعاء 27-2-2019