استرداد الثقة الغائبة..!
احتجاج الناس بهذه الصور المتنوعة، وغير المألوفة، واصرارهم على ممارسة سلطتهم العقابية (كمجتمع) ضد اوضاع فرضت عليهم، وخروج اصواتهم من دائرة الداخل الى مخاطبة الخارج، له معنى واحد وهو : انعدام ثقتهم بكثير من مؤسساتهم الوطنية، وافتقادهم لمصداقية ما يصدر من قرارات، وخيبتهم من تجارب ووعود كانوا ينتظرون منها الكثير، ويعولون عليها الكثير ايضا.
لا يهم الان ان نسأل : من اوصلنا الى هذا الوضع الصعب، فالجميع يعرف ما حدث على امتداد السنوات الماضية، المهم من اين نبدأ لكي نخرج من هذه الازمة ؟ والاجابة الوحيدة هي : يجب ان نبدأ من استرداد هذه الثقة الغائبة، ومن اقناع المواطن، بالفعل والممارسة والنموذج، أن مؤسساتنا ما تزال بخير، وأن ما نصدره من قرارات نابع من حاجة الناس وطموحهم، وما نشهره من ارقام وخطط واستراتيجيات، وما نفكر به من اجندات لن يكون لغايات التجميل وتمرير الضغوطات والاستجابة لمرحلة ما عابرة من المستجدات، ولن يظل - ايضا - حبرا على ورق، ومجرد تنظيرات تمارسها النخب المختارة داخل الغرف المغلقة، ولكنه استجابة لما يريده الناس، وما يحتاجه المجتمع، وهو - بالتالي - سيخضع للمراقبة وسيجد طريقه للتنفيذ وسيحاسب من يقصر في تجسيده وترجمته وسيترك للداخل حرية مناقشته وانتقاده والتعديل عليه او رفضه..
اذا اتفقنا على ذلك، لا يوجد ما يمنع السياسي الاردني من مصارحة الناس بالمخاضات والخيارات المسكوت عنها التي تعتمل داخل البلد والاقليم، أو التحديات التي تواجهنا وكيفية التعامل معها في المدى المنظور، كما لا يوجد ما يمنع الحكومة واجهزتها من الوصول الى الناس، لاقناعهم والتأثير في مواقفهم السلبية، فغياب الثقة ولا جدوى المشاركة هو الذي يدفع الكثيرين الى البحث عن صيغ اخرى للمطالبة بحقوقهم وانتزاعها ان لزم الامر، كما ان الاعتماد على بعض الممثلين التقليديين للناس في كل مناسبة باعتبارهم مفاتيح الحل والتأثير يجب ان يأخذ طريقا آخر، فعناوين القوى الفاعلة في المجتمع معروفة وتنتظر من يدعوها الى الحركة، ونماذج الاعتدال السياسي والديني، تبحث هي الاخرى عن فرصة لممارسة دورها الوطني في مواجهة مثل هذه الازمات.
لا يحتاج أحد الى هدنة مع أحد، فالجميع شركاء في تحمل مسؤولية الراهن والمستقبل، وغياب أي طرف أو اقصاؤه او تجميده يعني ان ثمة خللا ما في المعادلة، وان الطريق غير سالكه نحو تمتين الجبهة الداخلية.. وهذا غير مبرر بالطبع، لسبب بسيط وهو ان الذين يقفون في طرف المعارضة ليسوا أقل من الاخرين ايمانا ببلدهم، وحرصا عليه، وتضحية من اجله، وان اختلفت الوسائل والاجتهادات أو الأفكار والتوجهات.
لا احد في بلادنا يخفي احساسه بالخطر الذي يحيط ببلدنا، والتحديات التي تواجهه، والمرحلة الحساسة والغامضة التي تمر به، لكن ثمة من يميل الى التهوين من ذلك والتعامل معه من منطلق التذاكي والفهلوة والرهانات غير المحسوبة، وثمة من يحاول ان يهوله وينفخ فيه لحشد الناس على قواسم غير واضحة وبآليات غير مقنعة، كما أننا لا نعدم من يحاول الاستئثار بكافة الملفات، وحتى التعامل معها من منطلقات شخصية.. وهكذا فالغائب هو الاجماع المجتمعي. او ان شئت الحوار الوطني القادر على فرز الحقائق والتعامل معها بمسطرة المصلحة الوطنية.. بعيدا عن التهوين او التهويل.
اقل ما يمكن ان نفعله، مع الاحترام لكل ما نسمعه، هو ان ندفع الكثيرين من نخبنا وزعاماتنا الوطنية ومسؤولينا الأسبقين ومن يمثل المجتمع حقيقة الى المشاركة في هذا المخاض الذي تمر به بلادنا، ومنطقتنا، وان نسمع منهم ما يفكرون به.. ونبحث لديهم عن اجابات ما تزال غائبة نحتاجها اليوم اكثر من أي وقت مضى.. فهل ستصل الرسالة؟ وهل ستجد من يستقبلها ويفكك ذبذباتها ويفهمها على حقيقتها؟؟ ما زلنا ننتظر.
الدستور - الاثنين 11-3-2019