الشِّعر يصعدُ الباص!
یتجو ُل ِّ الش ُعر في العالَم. ٍ وحین نصادفھ، على باب البیت، أو في باص النقل العام، تصیبنا تلك القشعریرة الأشبھ برحلة في منطاد، فنصیر أكثر احتمالاً لما یحدث لنا، أو معنا، أو حولنا. ِّ البعض یعتبر أن وظیفة الشعر أن یجعل كل شيء بخیر! َّ للشعر ما لا طاقة لھ بھ، .. ثم ما حاجتنا للشعر لو أن كل شيء بات بخیر! َّ لكن في ذلك تحمیلاً َ الشعر ابن الخراب، وھو م ٌ دین َ للقتلَة، وللحرب، أكثر مما ھو مدین للرومانسیین والحالمین. ھو ُ مثل تلك الأحافیر والتشكیلات الوردیة الناحتة في الصخر، والتي ی ّصورھا السیاح وعلماء الآثار.. من دون أن یشیروا إلى أنھا حدثت بعد بركان ٍ ھائل قذف حممھ في وجھ مدن كاملة ٍ وآلاف الناس. حسناً إذاً، الذي صنع الشعراء ھو الخراب الذي حولھم، والخراب الذي في داخلھم، ولیس الطمأنینة التي نتوھمھا فیھم. ! الأسویاء لیسوا بحاجة لأن یكونوا شعراء أبداً الذي جعل ”مجنون لیلى“ شاعراً ھو الفقد والحرمان، والذي صنع عنترة ھو النبذ والعنصریة والإقصاء، والذي صنع شعراء المقاومة ھو الاحتلال..الخ. ِّ وھكذا یقع الشعر منّا موقع الرضا، حتى لو كان قادماً من لغة أخرى، ذلك أن الشعر لیس كائناً فیزیائیاً، ولا حتى عربة بعجلات، لیعبر الحدود الثقافیة للجغرافیا، أو الحدود الجغرافیة للثقافات، لكن ما یحدث ببساطة ھو أننا نسمع صدى الشعر الذي یتردد في أغوار الناس. وأعني ذلك بالضبط، الصدى. وقاس. یصیر محتملاً بعض الشيء، ومؤنساً بعض ٍ م لیس أكثر من كھف موحش ٍ لأن العالَ الشيء، حین نسمع ھذا الصدى. ثمة ما ھو سحري ھنا، تماماً مثل تلك الأفعى التي ترقص على صوت الموسیقى. ینطوي الشعر
على شیفرة سریة ھي التي تجعل مجموعة معینة من الناس، (ت َّشكلت ببطء عبر العالَم كلھ) تفھم ھذه الشیفرة فترقص ابتھاجاً أو.. تمسك رأسھا بیدیھا من فرط الألم! ھذا ما نسمیھ انتقال الشعر من ثقافة لأخرى، ومن حضارة لسواھا، وھو أمر مختلف تماماً عما تفعلھ الترجمة. الترجمة ھي تلاقح ثقافات، ونقل خطاب ثقافي الى لغة أخرى، أما الشعر، في رأیي، فینتقل بالتواصل كما ینتقل (المرض). ما أقصده ھنا أن علیك أن تعیش ثقافة شعب لتفھم شعره، أن تتوغل في تفاصیل الثقافة الأخرى، وشوارعھا الخلفیة، وحراكھا المعیشي والمعرفي والأخلاقي، لتستطیع فھم المصادر التي یتخلَّق منھا الشعر. ؛ ّ فالشعر بما ھو حالة وجدانیة خالصة، تتدفق من جوانیات الناس، علیك فھم ھؤلاء الناس أولاً لتفھم كیف یشعرون تجاه ھذه الفكرة أو الحادثة أو الفلسفة، وھذا أمر لا تصنعھ الترجمة وحدھا، بل العیش المشترك. ھذا العیش، بدوره، لم یعد المقصود بھ تلازماً جغرافیاً ومكانیاً بشكل حتمي، فالفضاءات الافتراضیة وتقلُّص مسافات السفر الى الحد الأدنى جعلا المعرفة صالحة للنقل، والتراسل، مثل َّ على قارتین! َ البضائع، بل وصار بالإمكان أن تقسم یوماً واحداً وھذا یجعل العالَم/ الكھف أكثر رحابة، لیتردد الصدى بشكل أكثر وضوحاً ونقاء. وبما یجعل من ّ یات المسم ّ اة فنیاً ِّ بالشعر. الصعب كتم أنین الناس أو شھقاتھم أو انتشائھم، وكل تلك التجلّ ّ أما الكیمیاء البشریة التي ھي دائماً ً ما تكون جاھزة للانزیاح نحو الدراما التي یكتظ بھا المخزون الشعري، فتجدھا بأفضل حالات الاستعداد حین یتعلق الأمر باستقبال ھذه الشیفرة الإنسانیة المتعلقة بالبوح. ِّ الش ٍ عر ھو تلك الشیفرة التي تنتقل بسرعة كالفضیحة. ثمة كائنات منتخبة في كل ثقافة وفي كل جغرافیا منذورة دائماً لھذه المھمة، أقصد التقاط الرسائل التي تجيء من ثقافة أخرى. وھنا یلتقي الشعر ببعضھ.
الغد - السبت 16-3-2019