خوف وكراهية متبادلة مرة أخرى
جاءت العملیة الإرھابیة التي استھدفت مسجدین في نیوزیلندا وراح فیھا نحو 50 ضحیة لتعید مشھد ظاھرة الخوف من الإسلام إلى الواجھة من جدید، ولتعید أجواء الحادي عشر من أیلول (سبتمبر) مرة اخرى، وابرزھا على المستوى الإعلامي والدعائي الذي بات یشھد نغمة من التحریض وأشكالا من خطابات الكراھیة كل ما نخشاه ان تنتقل الى المستوى الشعبي على أشكال ممارسات عدائیة أو تھدید ووعید وتحریض كما لمسنا خلال الساعات القلیلة الماضیة. ھذه الأجواء تخلق في ھذا الوقت ردود فعل في العالمین العربي والإسلامي ذات طابع تبریري وقد وصلت – عند بعض الفئات – إلى حد تسویغ الجماعات الإرھابیة وأفعالھا، وعلى طریقة: ”شاھدوا ماذا یقولون وماذا یفعلون بنا“ ویتم استدعاء التاریخ وحقب الصراع الطویلة لتسویغ ما یحدث والدفع بالمزید من الحطب على النیران المشتعلة، وھو الخطاب نفسھ الذي عبر عنھ الإرھابي برینتون تارنیت منفذ عملیة نیوزلندا في منشور لیلة الھجوم الذي وصف فیھ الجالیات الإسلامیة بـ(الغزاة الجدد) مبررا عملیتھ بانھا انتقام لملایین الأوروبیین الذین قتلھم الاجانب عبر التاریخ! ھذه البیئة یزدھر فیھا التنمیط الثقافي والسیاسي الذي یشكل الاساس المتین لنمو التطرف المتبادل، أكثر المناطق الرخوة التي تصیبھا حمى الإسلامفوبیا في ھذا الوقت ھم المھاجرون واللاجئون حیث شھدت مخیمات للاجئین في أوروبا خلال الاعوام الماضیة سلسلة من الاعتداءات كما تعرضت مساجد لاعتداءات متعددة، وكتابة عبارات مضادة واحتجاجات یمینیة متشددة في فرنسا ایطالیا والمانیا ووصلت إلى كندا، إلا أن حالة الإسلامفوبیا تراجعت بالفعل في العام الأخیر في الوقت الذي شھدنا فیھ محاصرة الجماعات الإرھابیة في الشرق الأوسط. كما ھو الحال الذي یتطلب فیھ الكشف عن مظاھر الإسلام فوبیا في أوروبا وغیرھا فان الانتباه الى ما یحدث في الجبھة الاخرى ھو الأصل فموجات التبریر والتسویغ التي تستثمر ظاھرة الخوف من الاسلام لتبریر مباشر أو غیر المباشر لما یحدث یجب ان تكشف وتعرى، كما أن
ردود الافعال الخجولة تحتاج الى محاكمة من نوع آخر. ھذه التطورات تطرح مخاوف اخلاقیة عدیدة على وسائل الإعلام المستقلة تحت عنوان عریض كیف تبقى الصحافة وفیة لمھمتھا الاساسیة في حمایة حق الناس في المعرفة دون أن تقع في شبكات الصراع، وان تتحول إلى أحد أطراف ھذا الصراع بعدما نالھا رصاص الإرھابیین. ثمة معطیات مختلفة تحمل كثافة عالیة من السیاسة المرتبطة بالادیان التي تحتاج من مجتمع الصحافیین العودة الى المربع الأول والاحتكام الى قوة الضمیر الاخلاقي الجمعي ومقاصد فلسفة حقوق الإنسان. في الوقت الذي تفرض الظروف الراھنة والتطورات العمل على ضرورة بناء ضمانات حقیقیة لحمایة حریة التعبیر في مواجھة التطرف الذي تفرضھ قوى ظلامیة لدى الطرفین فان ثمة اسئلة تبقى مشروعة؛ متى تكون حریة التعبیر في خدمة الدعایة السیاسیة والدینیة؟ ومتى یمارس الخطاب الإعلامي الاستفزاز المبرمج الذي یعبر عن حالة من التحریض والاستقطاب؟ ھل الرموز الدینیة اقل قداسة من الھولوكوست على سبیل المثال في الثقافة العالمیة؟ وكیف تحافظ وسائل الإعلام المستقلة على معادلة مھنیة واخلاقیة تحمي حریة التعبیر وتبعدھا في نفس الوقت عن ان تكون طرفا من اطراف الصراعات ذات السمات الدینیة. مع كل ھذه الاحداث العدائیة، وكل التحریض المعادي لكتل بشریة كبیرة تحت وسم الھویة الدینیة والاثنیة، ومع كل الكراھیة التي یصبھا الیمین الأوروبي والغربي، ومع كل ھذه الاختراقات لحقوق الإنسان التي صدعنا بھا العالم المتحضر على مدى عقود علینا أن لا ننسى ان الذین قتلوا العشرات من الابریاء وجرحوا المئات قاموا بفعلتھم وھم یصرخون بصیحات باسم الله والادیان.
الغد - الدستور 16-3-2019