لنا التاريخ.. ولنا الجغرافيا كذلك
لا أعرف إن كان من حسنات تطور الإعلام، أو من سیئاتھ، أنھ صار ینقل لنا الحرب في بث مباشر، وأسھم في أنسنة الأساطیر المتواریة في أذھاننا. ُ منھِكة نحاول رسمھا مستعینین بما تقول ّ لم یعد الجلاد فكرة غامضة، لم تعد الحرب صوراً ُّ الصحف، لم یعد الدم مجرد لون فھا أنت تحسھ یسیل عند رجلیك خلال نشرة الأخبار! ّ بیضاء متخیلة، فالشھداء الآن أطفال یموتون على مقاعد المدارس، لم یعد الشھداء طیوراً وأمھات یطبخن، وسائقو سیارات أجرة یموتون خلال نقل الركاب، والفضائیات تنقل لك اللحظات الأخیرة في حیاتھم، وآخر ما قالوه، وتوثّق ضحكاتھم على وجوھھم كما ھي؛ فلن تنتظر سماعھا من الرواة في المستقبل! الشھداء مثلنا؛ أشخاص عادیون كانوا على رأس عملھم، ثم استأذنوا! ّسجل الإفطار ّسجل الساعة الأخیرة في حیاة ربة البیت قبل أن تحمل لقب الشھیدة، وتُ الكامیرا تُ ّصو ّ ر الشھید وھو یضحك أو یمزح أو یشتم أو یشتري الخبز قبل أن یمشط الأخیر للعائلة، وتُ َش ّ عره ویدخل الى ”البوستر“ الملو ُ ن بضحكة م ّجمدة! ٍ غریبین مھمتھم الوحیدة صنع القداسة لقضیة ما، للإعلاء من الشھداء منّا، ولیسوا أشخاصاً شأنھا. ھا ھم یقدمون البراھین على شاشات التلفزیون، ویقدمون الوثائق الرسمیة التي تفضح أنھم أقارب لنا، جیراننا، التقینا بھم في المصعد یوماً أو على باب مطعم أو صالون حلاقة. الشھداء لیسوا حكایات یؤلفھا الصحفیون، وھذا الأب الذي یحمل جثة طفلة رضیعة على ! التلفزیون لیس ممثلاً، بل أب حقیقي وھذا الدمع حقیقي جداً والأطفال لن ینتظروا دروس التاریخ في السنوات اللاحقة لیقرؤوا التاریخ، فھا ھم یكتبونھ، ویرونھ أمامھم وسیجادلون فیھ أساتذتھم بثقة وبحجج دامغة وأكف مبللة بالدم! أما الأساطیر التي كنا نسمعھا في طفولتنا عن الشجعان والأبطال فتتراجع الآن من مخیلات
الأطفال، والكبار، وحتى من مخیلات المخرجین والشعراء، لأن الواقع أشد سطوعاً، ولم تعد َ المخیلة تلزم أحداً لصناعة فیلم أو روایة، فأي إبداع یستطیع أن یجاري فتى في التاسعة عشرة ٍ یقلق راحة دولة احتلال بحالھا! وأي قصیدة یكتبھا رجل مترف یمكنھا أن تصف شعباً یوزع الماء والأكل على زوایا الحارات ٍ من أجل مقاتل ُ م َطارد. والشوارع لیلاً ِّ لن تعود السینما مقنعة بعد الآن، ولا الشعر، وسیصیر المجد للفیلم الوثائقي. ولن یعود الرواة .. ضروریین فالأمھات الثكالى سیقمن بالدور، ولن یكون التاریخ كلھ مھماً فالتاریخ یكون ضروریاً حین نتحدث عن بطولات ”أبوزید الھلالي سلامة“، لكنّنا ونحن نتحدث عن ابن خالتنا، أو ابن جیراننا، یكون الضروري أن نفھم: ھؤلاء لم یموتوا من أجل أن یصنعوا ّ ”التاریخ“، بل كان كل ھمھم أن یجدوا مكاناً في ”الجغرافیا“! ّ یموتون من أجل بیت، أو جدار بیت، وقلیل من الظل حد جدار البیت. َّ السكنى في التاریخ، وفي الأغاني، جر ِّ بھا الناس مائة عام فلم تكن بیوت الشعر لتغنیھم عن بیوت الطین الحمیمیة. ً ولو مرة ً واحدة على العشاء! كل ما كان یریده ھؤلاء الناس أن تجتمع العائلة كامل .
الغد - الاحد 24-3-2019