في رثاء الأحياء
لا أحد یستطیع قراءة ما یكتب في رثائھ، فلمن یكتب الرثاء إذا! ھل ھو لتمجید الراحل أم للظھور معھ في ”ھذه المناسبة“؟ أغلب الظن أن الرثاء ھو فن من فنون الكتابة التي تروي سیرة الراثي، وبلاغتھ، ولیست لتعداد محاسن ”المرثي“! حیث نادرا ما نقع على كتابة یمجد فیھا صدیق صدیقھ الحي، او یعدد فیھا أحد أفضال رجل ما یزال على قید أفضالھ، لكن الرثاء غالبا یندفع من عدة أسباب: إما الشعور بالذنب تجاه الراحل لأمر ما ومحاولة التخلص من عبء أخلاقي، أو ھو تنفیس عن إعجاب ھائل بشخص كنا معجبین بھ لكننا لم نجرؤ على قول ذلك بحضوره خشیة أن نبدو أقل منھ؛ لكنھ الآن صار لا أحد أقل منھ في موتھ؛ ولم یعد مصدر تھدید لنا، ویمكن ان نعبر عن اعجابنا وغیرتنا دون أن یشعر ھو بالغرور؛ وتلك أقصى درجات الغیرة المریضة! لا أحد أتیح لھ قراءة ما كتب عنھ بعد موتھ؛ باستثناء حالات نادرة جدا أظن من بینھا الشاعر الراحل علي فودة (إن لم تخني الذاكرة) وربما ناجي العلي، حین قیل أنھما توفیا، ثم لم یلبث ذلك أن كان غیبوبة عمیقة استیقظا منھا، ثم توفیا في الیوم التالي، .. فقرأ الراحل بعض ما كتب عنھ في جریدة ذلك الصباح، ثم غادر! لكن لا أحد یكتب في مدیح الأحیاء. وكأن المیت یصیر فجأة منزھا عن كل خطأ، بریئا من كل نقیصة، او كأن الأصدقاء یحسدونھ على ھذا ”الاحتفال“ الذي من بطولتھ وحده؛ فیندفعون للظھور في الاحتفال والصعود الى المنصة ومقاسمتھ مناسبتھ الأخیرة ! في أحیان أخرى ثمة مشاعر ثمینة حقا، لكنھا مشاعر كسولة؛ توارت لفترة طویلة، تجاه صدیق كان یستحقھا كل یوم، وكنا نراه كل یوم، لكننا كنا نراھا عادیة ولا مناسبة للافصاح عنھا، تظل مؤجلة دون داع، وتندفع مجللة بالندم حین یغیب فجأة، وتقتضي حینھا المبالغة للتعویض. أما بین المبدعین، كتابا وموسیقیین وفنانین، فثمة دائما علاقة من نوع خاص؛ حیث یتابعون بعضھم بصمت، وبغیرة، ومكر، متابعة حثیثة، لكن ”الأنا“ تقمع أي شعور یعبر عن ذلك، فھو
یمنع نفسھ دائما أن تظھر علیھا علامات الإعجاب، ویحبس أي شعور بالتقدیر، ویعده انتقاصا من شخصھ أن ینفق من دھشتھ على غیر ”أناه“، لكنھ حین یموت الآخر ینفق من غیر حساب في مدیحھ، والتغزل في الملاك الراحل، رغم أنھ لم یتكلف عناء الذھاب لمعرضھ الفني الذي أقیم قبل یومین في الشارع المجاور لبیتھ! ھو یمدحھ الآن بلا حساب لأنھ، أي المیت، لن یسمع ھذا المدیح؛ ولن یستفید منھ، وھذا یرضي غرور الشخص ویحافظ على دھشتھ بنفسھ كاملة غیر منقوصة! وھكذا نظل نقرأ مقالات كثیرة، ونسمع ثرثرات سخیة عن أشخاص ماتوا للتو كان یكفیھم أن یسمعوا القلیل جدا منھا في حیاتھم لتصیر حیاتھم أجمل وأدفأ وأغزر معنى.
العد - الجمعة 12-4-2019