“جمهوريات” العرب..!
من المفارقات أن تكون الدول العربیة -وكثیر من الإفریقیة واللاتینیة- التي استقلت بعد نضالات ّ شاقة حول أواسط القرن الماضي قد سمت نفسھا ”جمھوریات“! وإذا أفلحت بعضھا فوضعت دساتیر تحدد فترات ولایة الزعماء، فسرعان ما تحایلت كلھا علیھا بلا استثناء: إما بتكوین ُ حزب سلطة یصبح اسمھ ”الحزب الحاكم“ –أي الذي لا یحكم البلد غیره- والذي یضمن ألا یكون لمرشحھ طویل العمر منافس ویفوز دائماً بحب أكثر 99 % من الناخبین؛ أو بتغییر الدستور –مع فرض الموافقة على تعدیلھ بالتخویف وتھیئة الظروف لعدم الاعتراض- بحیث یسمح للزعیم الأوحد بالبقاء في الكرسي إلى الأبد، دستوریا، (بإرادة شعبیة ساحقة). الجمھوریة، ھي ”دولة تكون فیھا السلطة العلیا بید الناس وممثلیھم المنتخبین، والتي یحكمھا ُ رئیس منتخب“، أو ھي ”مجموعة تقیم المساواة بین أفرادھا“؛ أو ھي ”شكل من الحكم یعتبر فیھ ُ البلد ”شأنا عاما“، ولیس شاغلا خاصا أو ملكا للحاكم. ولیست المناصب الأساسیة للسلطة في الجمھوریة موروثة، وإنما تُنال من خلال الدیمقراطیة“. ھذه ھي التعریفات القاموسیة للجمھوریة لدى الناس الذین ابتكروا المفھوم والممارسة. ولذلك، یجدر بالدول العربیة التي تزعم لنفسھا ھذا الشكل أن تشطب من أسمائھا كلمة ”جمھوریة“، مثلما تشطب أنظمتھا الحاكمة ”الجمھور“ عملیاً من اھتماماتھا وتجعلھ آخر الھموم. من العجیب حقاً أن یرید أحد أن یضع في رقبتھ مسؤولیة العنایة بملایین الناس، ویتحمل وزر الأخطاء التي سیرتكبھا حتما وتنعكس على حیاتھم وسبل عیشھم ومصائرھم! ومن الغریب أن ّ في العالم العربي بسبب سوء الأداء. لكن یرغب في أن یكون مركزا لانتباه غیر متعاطف غالباً َفھم السلطة على أنھا مسؤولیة تجاه الناس، ولیست طریقة ھذا یستوجب العجب فقط حین تُ لإرضاء ذات متضخمة لا یخالطھا في نفسھا شك، وتكدیس المال والنفوذ والترفع عن بقیة الخلق. بل إن ”الترفع“ في العالم العربي لیس كذلك بالضبط، عندما یكون الجزء الأكبر من ُ خبرة الحكم ھو التطامن أمام زعماء العالم القوي وتنفیذ إرادتھم بلا سؤال.
لا یستطیع أحد أن یزعم لنفسھ صلاحا حین یحكم في نظام جمھوري ثم یبقى أكثر مما اصطلح علیھ الناس في الجمھوریات –ولایتین بمجموع ثماني سنوات كحد أقصى. ینبغي أن یكون قد تعب، أو جمع ما أراد أن یجمع، وأصبح ”فخامة“ مدى الحیاة. ولكن، یغلب أن یفكر ھؤلاء بطریقتین: أن یقنعوا أنفسھم حد الإیمان الذي لا یأتیھ شك بأن العالَم سیخرب من بعدھم، وبأن الله خلقھم وكسر القالَب بحیث سیضل الناس بعدھم؛ أو یعرفون في دواخلھم أنھم إذا تخلوا عن السلطة -مع كل الكوارث التي اقترفوھا والمخالفات التي ارتكبوھا- سیتعرضون للعقاب ُ والمحاسبة في مجتمع تحكم َ ھ القب َ لیة والثارات عندما یصبحون بلا حصانة. وكأنما من المستحیل، في ھذا العالم العربي، أن یخدم زعیم جمھوریة ثماني سنوات، ثم یتقاعد إلى عزبتھ ویعیش حیاة الناس العادیین ویلقي السلام علیھم ویتلقى تحیتھم بینما یتجول في السوق لیشتري حاجیاتھ. أما تكرار النمط بعد ”الربیع“، حیث لم یھدأ بعد صراخ ملایین الشاكین من سوأة الأوضاع مثل المعذّبین في عالم ”ھیدز“ السفلي، فالھول الھول! بعد أن یصعد أحد على أكتاف الفقراء في ٍ المیادین لیحل محل سلف خلعھ الغضب والاحتجاج، سرعان ما یصبح مستنسخا عن سلفھ، ویرتب لیجلس في الحكم عقوداً بـ“إرادة الشعب“ –الذي قال بالأمس فقط إن ھذه لیست إرادتھ- ُ و“كأننا یا بدر، لا رحنا ولا جینا“. بئس حظ الشعوب العربیة –والإفریقیة واللاتینیة- حقاً! حتى فیدل كاسترو، أیقونة الثوریین ُ بعد ولایتین ویفسح ومحبي الحریة في العالم، أصیب بھذه اللعنة. كان یمكن أن یتقاعد أیضاً المجال لواحد آخر، حتى لو من حزبھ ومن نفس خطھ الأیدیولوجي لیكمل مسیرتھ. لكنَّھ أطال َّ المكوث وورث، مثلما یحدث في ”جمھوریاتنا“. الجمھوریات-الجمھوریات لیست شیئا مستحیلا -حتى لو تولاھا شعبویون. لیس مستحیلا أن یتجول الزعیم السابق في الشوارع ویشتري حاجیاتھ من البقالة بلا خوف -على طریقة ”عدلت، ِ فأمنت، فنمت“. لكن العدل والزھد في السلطة في ”جمھوریاتنا“، حتى بعد كل ما قالھ الناس في ”الربیع“ المریر، من أخوات ”الغول، والعنقاء، والخل الوفي“!
الغد - السب 20-4-2019