لا نكتشفهم إلا حين يرحلون
نتذكر الاعزاء حين يحملون حقائبهم للسفر الى الدار الاخرة، فنشيعهم بالحزن والدعاء، ونحتفي بمآثرهم وما قدموه لنا من انجازات، ثم نتأسى على رحيلهم، ونفتقد حضورهم، وكم نتمنى لو تأخر موتهم قليلا لنستدرك تقصيرنا معهم، او لنكرمهم كما يليق بهم، او لنعتذر ونقول لهم : الان انتبهنا لحجم خسارتنا بغيابكم، فسامحونا اذا لم ننصفكم الا بعد ان لوحتم بأيديكم الينا مودعين.
هذا حالنا مع رحيل الدكتور عبداللطيف عربيات رحمه الله، كما كان حالنا مع كثير من الراحلين المخلصين والطيبين الذين سبقوه، نتذكرهم ونشعر بفقدهم ، ونتزاحم لتقدير مواقفهم ، والاشادة بما اتصفوا به من فضائل، وكأننا كنا ننتظر حتى يموتوا لنكتشفهم، او كأن ضمائرنا لا تصحو الا في لحظة احساسنا بالتقصير معهم، ودائما بعد فوات الاوان.
كان الدكتور عربيات، رحمه الله، نموذجا للاردني الاصيل، وقبل ذلك كان انسانا بكل ما تحمله الانسانية من قيم واخلاقيات، حافظ على توازنه وحكمته وتواضعه في اشد لحظات اضطراب المزاج العام، وظل متمسكا باعتداله وسماحته مع الذين اختلفوا معه، وشكل حالة نادرة في احترام قواعد الاشتباك السياسي، والالتزام بأخلاقيات العمل العام.
نحتاج اليوم للوقوف امام مثل هذا النموذج الوطني الذي تحرك بيننا على مدى عقود، وتبوأ مناصب عديدة في المجالين الرسمي والمعارض، حيث المعارضة الشريفة وجه آخر للوطنية وليست نقيضا لها، لا لتقديم واجب العزاء او انتزاع اللحظة الحزينة للاستثمار فيها سياسيا كما يفعل البعض، وانما لكي نتعلم من تجربته الغنية بالدروس والعبر، ولكي نعترف ان بعضنا اخطأ حين تعمد عدم الانصات لصوته وحكمته، او حين قفز من دائرة المصالحات التي رسمها مع كل ازمة كانت تحاصرنا ولا نجد منها اي مخرج، ثم لنعترف ان بيننا الان نماذج اخرى تشبهه او قريبة منه، رحمه الله، نحتاج ان نسمعها ونرد عليها التحية بمثلها او باحسن منها، لا ان نتجاهلها او ننتظر رحيلها لنرد الاعتبار اليها ونبادلها التحية والسلام.
الان بوسعنا ان نقول في حضرة غياب الرجل الفقيد، ولو متأخرين : كان يمكن للحركة الاسلامية التي استغرقت في ازماتها ودفعت ثمن اختلافاتها وصراعاتها، ان تنصت لصوت الراحل عربيات، ولو فعلت ذلك لما وقعت في «فخ» الصدام والانشقاق، كان يمكن لمجتمعنا ان يستثمر في مبادرة «جمعية العفاف « التي اطلقها رحمه الله، فيجد الالاف من شبابنا العازفين عن الزواج فرصة تسهل لهم بناء اسرة جديدة، كان يمكن ايضا لاجيالنا الذين يبحثون عن نماذج وطنية مستقيمة ونظيفة تلهمهم ( مهما كانت منطلقاتهم الفكرية والسياسية ) قيم الانتماء لوطنهم، ان يجدوا هذا النموذج لو قدمناه لهم حين كان يمشي ويتحرك بيننا، لكننا للاسف قصرنا في ذلك، وما نزال نغمض عيوننا على نماذج اخرى مثله، وكأن قدرهم وقدرنا ان لا نستذكر فضلهم علينا وحاجتنا اليهم الا بعد ان يرحلوا.
ما احوج بلدنا اليوم الى شخصيات وطنية عابرة للتقسيمات و المصالح الشخصية و»التكايا» السياسية ، ما احوجها للضمائر الحية التي تضحي بكل امتيازاتها لمصلحة الناس ومصلحة الوطن، كم من هؤلاء لا نزال نحتفظ باسمائهم في ذاكرتنا الوطنية العصية على الشطب، وكم من غيرهم مروا ولم يعد يتذكرهم احد.
رحم الله الفقيد الدكتور عبداللطيف عربيات، كان يتمنى ان يكون «جامعا « في وطنه وامته، فقدر سبحانه وتعالى ان تفيض روحه من «الجامع».
الدستور - الاثنين 29 نيسان / أبريل 2019.