في سوق الخضار عدت صبيًا!
بإمكانك أن تعود طفلاً أو صبياً أو شاباً وقتما تشاء. ما عليك سوى أن تخلع عنك عمرك. تذهب الى المكان الذي كنت فيه ذاك الطفل بالشورت والشعر القصير. الفتى بالخطين الاسودين الخفيفين فوق الشفة السفلى، وبالصوت الذي تخشن قليلا حتى صار يصعب على أمه التمييز بينه و بين شقيقه الذي سبقه في الخروج من دائرة الطفولة. الشاب الذي بدأ مرحلة المراهقة برسائل الى بنت الجيران الخجولة والتي غادرت هي الأخرى حضن أمها الى حضن الحياة.
«احلق ذقنك كل يوم يسرع شعر لحيتك بالاعلان انك اصبحت رجلا» تلك نصيحة زملاء الصف الثاني اعدادي. عندما لا يكون ابوك في البيت ادخل الحمام، اسرق الفرشاة ومعجون الحلاقة والماكينة، وافعل ما رأيته يفعل. لا بد طبعاً من خسائر منظورة، جرح على الخد الايمن، نكشة شفرة على الايسر أما أعلى الرقبة فجرح او جرحان لا بد منهما.
لا تخف ان زجرتك أمك وهددتك انها ستقول لابيك أنك حلقت ذقنك فقلبها يكاد يطير فرحاً أنك اصبحت شاباً. وحين يعود ابوك الى البيت سيتظاهر انه لم يلاحظ التغييرات على خريطة وجهك فقد أخبرته أمك وفرحا معاً أيما فرح.
كعادتي بين وقت ووقت أزور الزرقاء امي الثانية التي ربتني. أردت أن أعود صبياً في المرحلة الاعدادية. ذهبت الى دكان والدي في حسبة «سوق» الخضار القديمة. وقفت صامتاً فيما كان شريط الذكريات يمر امامي بسرعة جنونية. قال الرجل الواقف وراء بسطة البندورة و الخيار والبامية والملوخية : اظن اني أعرفك. قلت له : أنا رشاد ابن ابو رشاد، كانت هذه الدكان له وكان يقف مكانك من اذان الفجر الى اذان المغرب. قال : الكل هنا يعرفه يرحمه الله، اعرف أخاك علي، وكان صديقي أخاك احمد. ما اخباره؟. قلت : يرحمه الله مرض وتوفي.
سألته عن جيران والدي. قال : معظمهم ماتوا. ابو عدنان، ابو علي، ابو محمد وووو. أما ابو حسين فانه مقعد في البيت وذاك الذي في دكانه حفيده، وابو يوسف كذلك. عدنان مهندس واياد ابن ابو يوسف استاذ في الجامعة و علي دكتور يعمل مدرسا في جامعة اميركية، أما اخي محمد الذي كان زميلك فانه دكتور طبيب يعمل في السعودية.
ودعته حاملاً معي ذكرى والدي الذي من هذه الدكان -التي كان دخله منها بين ثلاثين واربعين دينارا- أرسلني الى دمشق لأدرس اللغة والادب الانجليزي. ليس لانه مغرم بشكسبير وشيللي وبايرون واميلي وأختها شارلي برونتي ولا بالانجليز الذين استعمرونا وقسمونا في سايكس بيكو بل لانه لم يكن في الاردن الا جامعة واحدة هي الجامعة الاردنية ولم تكن تستوعب كل خريجي الثانوية.
دخلت أعمق في الذكريات الى داخل الحسبة لعلني أجد أحداً أعرفه. وليد كان اصغر اخوته الستة وكان اخوه الثاني زميلي في المدرسة. عندما رآني عرفني. سلم علي بحرارة واصر أن أشرب عنده قهوة. قلت له : لا أريد شايًا. ولا اريد كرسيا. أريد أن أجلس على هذه «الصحارة» كما كنت أفعل زمان. سألته عن اخوته. محمد الكبير ما أخباره ؟ قال تقاعد من الجيش برتبة عقيد. محمود صاحبك في الكويت. الثالث احمد مرض و توفي. ونبيل وخليل وها أنا وليد ورثت الدكان و المهنة عن والدي.
ساعة في الحسبة أعادتني صبياً بعيداً عن ضجيج الحياة و طنين أسئلة يومية قاتلة : هل الحرب قريبة بين اميركا وايران؟ هل يفعلها ترامب و يحرق المنطقة؟ هل سيرضخ العرب لصفقة القرن ويتخلوا عن قضيتهم المركزية؟ هل يتذكرون فلسطين أم أنهم صدقوا أنها صارت «اسرائيل»؟!
الدستور -الثلاثاء 30 نيسان / أبريل 2019.