أفكار ومواقف كساد المعرفة.. كساد النقد..!
یشتكي بعض الناشرین –والكتاب أحیانا- من عدم تدخل النقاد لإلقاء ضوء على الكتب الجدیدة. والفكرة أن المراجعات النقدیة والعروض المنشورة سوف تلفت عنایة القراء إلى الكتاب المقصود وتساعد في تسویقھ. لكن الناقد نفسھ ربما یشتكي من أن نتاجھ نفسھ غالبا ما یكون كاسدا، مثلھ مثل الكتاب (ثمة كتب موضوعھا النظریة النقدیة أیضا). ولا یصعب تعقب العلاقة بین الأقنومین؛ فلو كان الناس یقرؤون الكتب، أو ساد تقلید القراءة كمكون ثقافي، لرغبوا في استھلاك النقد للاستنارة بمقترحاتھ، سواء في استكشاف مضامین الكتب المقتناة، أو الاسترشاد بھ لشراء كتب جدیدة. وبذلك، قد یرغب الناقد في تسجیل قراءتھ لكتاب، لكنھ یتردد في بذل الجھد والسعي إلى النشر، على أساس أن الجمھور لا یقرأ الكتاب –ولا النقد. غالبا ما یكون الذین یشتغلون بالنقد في بیئتنا من الأكادیمیین الذین یریدون دعم سیرھم الذاتیة، ُ ویكتبون لجمھور معین ولغایات محسوبة. وی ّذكر ھذا بتشخیص المفكر الراحل إدوارد سعید لمجموعة الزملاء محدودي العدد من الدائرة الأكادیمیة والفكریة الذین یتبادلون نتاجات بعضھم البعض ویستھلكونھا بینھم فحسب. والأصل في زبون النقد الرصین أن یكون قارئا جیدا ومالكا لأدوات التفاوض مع النص النقدي، كما ھو حالھ مع النص الإبداعي أو الفكري. ثمة ”نقد“ آخر شائع، ربما نسمیھ ”نقد المجاملات“. وفي السیاق، أتذكر حضور مناسبة لتوقیع كتاب أدبي لشخص أعرفھ، حیث قدم المتحدثون من أصدقائھ شھاداتھم وقراءاتھم الشبیھة بقصائد المتنبي في مدح سیف الدولة. وفي الأیام التالیة نشرت مراجعات للكتاب في الصحف بنفس اللھجة المحتفیة. وفي الحقیقة –في رأیي المتواضع- لم أجد في الكتاب، في التقنیات ولا الثیمات، ذلك التمیز الموصوف. ولم تجد الشھادات والمراجعات أي سقطات أو ھنات، وكأن ُ الكتاب م َّ نزل معصوم، لا یأتیھ الباطل من أمامھ ولا من خلفھ. ٌ ھذا ”نقد“ یعرفھ الزملاء الذین اضطروا إلى مثلھ. فقد یھدیك أحد كتابھ موقَّعاً مع إھداء عاطفي، ویطلب منك صراحة أن تكتُبھ لھ عنھ –إذا كان لدیك مدخل إلى نشر. وسوف تفعل غالباً ما یلي:
تجلس مع الكتاب شیئا مثل نصف ساعة أو نحو ذلك، وتشملھ بقراءة مسحیة (scanning،( ِّ وتدون فكرة من ھنا وأخرى من ھناك، ثم تضع الكتاب جانبا وتقوم بتركیب مادتك. وإذا كنت بارعا بما یكفي ولغتك جیدة، فسوف تكتب شیئا صالحا للاستھلاك وتتلقى الكثیر من الامتنان. لكنك تعرف في دخیلتك أنك لم تقرأ الكتاب قراءة نقدیة ولا غیر نقدیة، وأن قراءة مخلصة لھ ستتطلب منك أیاما أو أكثر. ّ أتصور أن معظم ما نقرؤه في الصحف والمجلات ینتمي إلى ھذا النوع الأخیر: النقد بالطلب أو الحث، أو من أجل المكافأة النقدیة التي تدفعھا جھة النشر على القطعة. ولذلك، لیس غریبا أن تصدر كتبا مھمة ولا یكتُ ٌ ب عنھا أحد ُ شیئا، إذا لم یكن ”وراءھا مطالب“ -أي ناشر أو كاتب حسن العلاقات و“جريء“ بما یكفي لطلب مراجعة بالتخجیل، ومفتوح الید قلیلا أیضا بحیث یھدي عددا من النسخ المجانیة إلى من یتوسم فیھم التعاون والاستجابة. تستُثنى من ھذا، بطبیعة ّ الحال، كتب الأدباء الكبار المكرسین، مثل محمود درویش أو عبد الرحمن منیف مثلا، الذین تجلب الكتابة عنھا للناقد قدرا من الشھرة الإضافیة. ثمة شيء آخر من متعلقات النقد عندنا: أن تكون لدیك لغة غامضة مراوغة، ومفردات مفرطة في التخصص بحیث لا یفھمھا إلا الفلاسفة والأكادیمیون المتخصصون. وربما یكون القارئ ّ مثقفا معقولا، لكنھ لا یفھم ما تكتب، ویثني علیك مع ذلك ویقدرك –أو بالأحرى یخاف منك- لأنك تحكي لغة علویة بالنسبة لھ. كانت أستاذة تدرس لنا مساقا في النقد في الجامعة تقول للذین لا یحسنون الإجابة منا، أن ھذا لا یلیق بالناقد المستقبلي. وفي الحقیقة، یكتشف دارس الأدب والنقد عالما كاملا من المدارس ّ والمناھج والمقاربات، ویتعلم الكثیر إذا كان معنیا. لكن دراسة النظریة النقدیة وحدھا یغلب ألا تجعل من المرء ناقدا جیدا. إنھا تزوده بالأدوات والخلفیات المعرفیة التي تشحذ عنده ملكة التذوق الفني والحسي الجمالي، وتغني خیاراتھ التعبیریة، فحسب. ولذلك، یندر العثور على ناقد ناقد، ویكثر الدخلاء، ویبقى النقد محكوما بقدر الكساد الذي یحیط بكل شيء ھنا.
الغد - الخميس 2-5-2019