أرقام مخجلة للإنسانية
على مدى خمسة الاف سنة شهد العالم اكثر من (15) الف حرب تسببت في موت اكثر من (25) مليار شخص، وعلى مدى الـ (3400) سنة الاخيرة من حياة البشرية لم ينعم الانسان الا بـ (250) سنة سلام فقط، اما في القرن العشرين فقد شهد العالم نحو (260) نزاعاً مسلحاً بلغ عدد ضحاياه اكثر من (170) مليون انسان، اما ضحايا الحروب الدينية في اوروبا بين الكاثوليك والبروتستانت فقد بلغت نحو (10) ملايين انسان يشكلون ما نسبته %40 من شعوب وسط اوروبا، وفي الحرب العالمية الاولى سقط نحو (8) ملايين عسكري فيما سقط في الحرب العالمية الثانية نحو (60) مليون انسان.
هذه مجرد ارقام عابرة،(لكنها بالطبع فاجعة للانسانية) تعيدها الى ذاكرتنا الحرب التي تشتعل اليوم في بعض اقطارنا الاسلامية تحت اي عنوان، وهي ايضا تصوّر مدى الوحشية التي انتهت اليها الحروب حين تتخلى عن ضوابطها واخلاقياتها، ولنا ان نتصور،ان مجموع ضحايا الغزوات التي حدثت في عهد الدولة النبوية (غزوة وسرية) في تسع سنوات لم يتجاوز (386) انساناً من الفريقين: (203) من المشركين و(183) من المسلمين.
ترى كيف ينظر الاسلام الى الحرب والقتال؟ هذا بالطبع سؤال ضروري في ضوء ما نراه في عالمنا اليوم من حروب: تارة باسم الدفاع عن الدين وتارة باسم القبض على الاسلام والمسلمين، الاجابة معروفة فالحرب في الاسلام استثناء؛ لان السلام هو الاصل، وهي حرب حماية ووقاية، وقد تكون ضرورة اجتماعية وانسانية لكنها ليست غاية في حدّ ذاتها، وانما ضرورة اذا استعصى الخصم ولم تنفع معه كل دعوات السلام والحوار، او اذا أشهر الظلم والعدوان، وعندها تكون فريضة واجبة لرد العدوان والاعتداء، ولكنها حرب نظيفة، لا يوجد فيها افراط في استخدام القوة، ولا الغاء لشرف الخصومة، ولا تجاهل للعدل في المعاملة، ولا للانسانية في القتال وفيما بعد القتال، ولا خضوع لغرائز الغضب ونوازع الحقد والقسوة والانتقام، حرب رقيقة تحدد اهدافها سلفاً، وتخضع لشروط حازمة على قاعدة الاخلاق العظيمة التي جاء بها الاسلام، وتستهدف المحاربين فقط، ولا تتحول الى وسيلة للقهر والابادة والسبي والتشريد.
لو لم يكن من مظاهر العدل في الاسلام الا قوانينه الحربية - كما يقول احد المفكرين - لكان في ذلك ما يقنع المنصفين على اعتناقه، وفي كتب السير والجهاد نطالع أرقى ما يمكن للعقل الانساني ان يتصوره من تشريعات تحكم الحرب، وتحدد اهدافها، وتحارب المتجاوزين على اخطائهم، وتمنع الاساءة عن المدنيين، ولعل ما قاله ابو بكر الصديق لقائد جيشه وهو يوصيه بتلك القيم نختصر بعضاً منها، يقول: « لا تخونوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا طفلاً صغيراً ولا شيخاً كبيراً ولا امرأة ولا تقطعوا نخلاً ولا تحروقه ولا تقطعوا شجرة مثمرة ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيراً الا لمأكله، وسوف تمرون على قوم فرّغوا انفسهم في الصوامع فدعوهم وما فرغوا انفسهم له»..
مشهد الحروب القذرة في عالمنا اليوم، وما تلحقه من اضرار على البشرية، مقابل عدم قدرة القوانين الدولية على محاسبة مجرمي الحرب - وما اكثرهم - تجعلنا مدعوين لتقديم نموذجنا الاسلامية ورؤيتنا للحروب: اهدافها وضوابطها واخلاقياتها وهي رؤية لم تصل اليها البشرية - رغم ما شهدته من تقدم وحضارة - حتى اليوم.. فمن يتطوع من علمائنا لاصدار قانون اسلامي شامل، يناقش نظرية الحرب ويضع ما شرعه الاسلام في هذا المجال من قوانين حازمة تتناسب مع عظمته وفاعليته وحاجة الانسانية اليه ايضا.
الدستور - الجمعة 3 أيار / مايو 2019.