العربية الجديدة
المبادرة التي اطلقھا سمو ولي العھد الأمیر الحسین بن عبد الله والخاصة بالارتقاء بمكانة اللغة العربیة، احتفي بھا بطریقة تقلیدیة كالعادة ؛ أي بالشكر والتقدیر والثناء والعودة للتغني باللغة العربیة وقدسیتھا وماضیھا وفضلھا على العالمین، والبكاء على حاضرھا وما أصابھا ونكران ابنائھا لھا ؛ وعلى ھذا المقاس تجري الأمور، لا اعتقد أن ھذه المبادرة قد عنیت بھذه المقاصد، ولا الأمیر الشاب معني بتذكیره بحالة اللغة العربیة وماضیھا، بل الفكرة تصب في المرمى البعید في تجدید الثقافة العربیة وتخلیصھا من اوثان الحاضر والماضي معا انطلاقا من البحث عن مكان ما للغة العربیة في العالم المعاصر باعتبارھا أداة اتصال تحتاج مثل أي كائن حي ان تجدد الدماء في عروقھا وان تستجیب لمتطلبات العصر. ثمة فجوة رقمیة ھائلة تواجھ اللغة العربیة، في المقابل ثمة فرصة رقمیة ھائلة تنتظر اللغة العربیة، تبدو الفجوة في حجم الاستھلاك والإنتاج باللغة العربیة على شبكة الانترنت، ومستوى جودة ورداءة المحتوى العربي على ھذه الشبكة، في مقابل الفرصة الھائلة المتمثلة في حجم الشباب في المجتمعات العربیة وھم عادة الاكثر قدرة على انتاج المحتوى الرقمي واستھلاكھ وأكثرھم قدرة على الابتكار والتجدید. التحدي المفترض ان تطرحھ ھذه المبادرة على نحو 50 جامعة ومؤسسة ثقافیة وعلمیة أردنیة الیوم، لا یتمثل في التغني باللغة العربیة وتنظیم الندوات والمؤتمرات لاعادة التذكیر باھمیتھا واستدعاء امجادھا، التحدي الحقیقي الذي تتطلبھ ھذه المبادرة كیف نستثمر في لغة (الضاد) كي نحول ھذه المھمة الى فرصة اقتصادیة للاجیال الجدیدة، فما تزال ھذه اللغة كتلة خاما غیر مستغلة یمكن أن توفر مئات الفرص في العالم الرقمي الجدید. ھذا التحدي یعني تجاوز المطلب الذي بات تقلیدیا في زیادة حجم المحتوى العربي على شبكة الإنترنت فھذا نتیجة وأحد المخرجات التي یسبقھا اطلاق مئات الشركات الناشئة ومئات المنصات والبرامج من قبل افراد أو مؤسسات أكادیمیة وثقافیة لتسھیل اللغة العربیة وجعلھا
صدیقة للحیاة المعاصرة بمعنى سیل من التطبیقات التكنولوجیة الذكیة التي تعید الق ھذه اللغة وتجعل منھا اداة اتصال سھلة وجذابة، وتعني ثورة حقیقیة في علوم النحو والصرف واشكال وقوالب تقدیم المحتوى، علینا ان ننزع القدسیة عن القوالب التقلیدیة التي ابدعھا بشر مثلنا منذ قرون بعیدة وكانت حینذاك ثورة حداثیة في زمنھم. یعد استخدام التقنیات الجدیدة عادة راسخة لدى الشباب، كما یعد إرسال المحتوى من خلال الشبكات الاجتماعیة الطریقة المفضلة لھم للتواصل ویمیل ھؤلاء الشباب إلى إنفاق نسبة من دخلھم على الاستھلاك الإعلامي تفوق النسبة التي ینفقھا من ھم أكبر سناَ، وھم أكثر قدرة على إنتاج محتوى جدید ومتنوع ومتعدد، وحیث إمكانیات الریادة والابتكار الاجتماعي والثقافي والسیاسي لدیھم أكثر من أي فئة سكانیة أخرى. ھذه النعمة السكانیة التي یقبل علیھا العالم العربي والأردن تحدیدا قابلة أن تتحول خلال السنوات العشر القادمة إذا ما أحسن التصرف والتعامل الحكیم والرشید معھا إلى نعمة رقمیة توفر فرصة حقیقیة لتنمیة وتطویر المحتوى ُ الرقمي العربي، فھي جاذبة لكافة أطراف سلسلة القیمة الإعلامیة (ملاّك وسائل الإعلام، ّ مطو ّ ري المحتوى، المشغلین...). تجدید اللغة العربیة ودمجھا في الحیاة المعاصرة بفعالیة أكثر وجعلھا صدیقة للحیاة الیومیة قبل أن تكون صدیقة للعلوم، یعد شرطا أساسیا لتجدید الثقافة العربیة. ھنا، لن یحدث ھذا الأمر الیوم بعقلیة سیبویھ والفراھیدي ولا بذھنیة رواد عصر النھضة الحدیثة في القرن التاسع عشر ومطلع القرن الماضي، ھذا التحول التاریخي یحتاج الى استثمارات من نوع جدید وكیمیاء وروح جدیدیتین، یحتاج إلى رأس مال مغامر في البدایة، ولكنھ في المجمل سوف یتحول إلى قوة اقتصادیة ھائلة. على الجامعات الأردنیة والمؤسسات العلمیة والثقافیة أخذ ھذه اللحظة على محمل الجد في ضوء توفر إرادة سیاسیة ورغبة في إحداث فرق ما، ان مشاریع وبرامج ناشئة وطموحة تبدأ الیوم في تحدیث اللغة العربیة قد تتحول خلال أقل من عشر سنوات إلى مورد اقتصادي ھائل، لا تستغربوا ھذا.
الغد - الخميس 2-5-2019