«مقلوبة»..صلاح الدين
كان اللحم أو الدجاج ضيف بيوتنا العزيز «الغالي» الاسبوعي، أما بقية الاسبوع فكان المقيمون الدائمون اما العدس واخواته البقوليات من خير الأرض، حمص، فريكة القمح، برغل، فول، وطبعاً، كانت المجدرة سيدة الاكلات الجميلة مع توابعها من مخللات وفجل وبصل أخضر.
الجمعة كان سيد الأيام، يوم اللحم او الدجاج، وفي أغلب الأيام كانت «المقلوبة» السيدة. تغسل الأمهات اللحم أو الدجاج جيداً بالماء والليمون، يقلبنه قليلاً مع فرمات البصل، وفي قاع الطنجرة الكبيرة يضعنه مع الباذنجان وشرحات البندورة-اضيف اليه من باب التحديث لاحقاً- قطع من الزهرة والبطاطا، ثم طبقة من الرز واخرى من اللحم او الدجاج، ثم أخيراً الرز. تترك الطبخة تنضج على النار على مهلها.
لم اكن اعرف أن « المقلوبة « طبخة مقدسية الاصل حتى شاهدت نساءً فلسطينيات يقلبن الطناجر في صوان كبيرة ويقدمنها للمرابطين والمرابطات في ساحات الاقصى على مرآى من جنود الاحتلال الذين كانوا ينظرون بدهشة الى ما يفعلنه تلك الفلسطينيات، وما علاقة تلك «المقلوبة بالمسجد الاقصى.
بحثت ووجدت أن اسم «المقلوبة»، التي تعرف في الوسط المقدسي بـ «أكلة النصر»، أطلقها عليها القائد صلاح الدين الأيوبي، حين فتح القدس سنة 1187م، وقد كانت تسمى من قبل بـ «الباذنجانية»، نظرا لأنها تطبخ أساسا من الباذنجان.
و سمّيت «مقلوبة»، لأنّه يتمّ وضع اللحم أو الدجاج مع الخضار في قاع الوعاء الذي تطبخ فيه، ثمّ تقلب عند تقديمها، بحيث يصبح الأرزّ أسفل الطعام، أمّا الخضار واللحم فتصبح في الأعلى.
تحولت طبخة المقلوبة من أكلة بيوت المقدسيين، الى أكلة المرابطات بالمسجد الأقصى منذ سنة 2015، خلال شهر رمضان، بمبادرة من المرابطة المقدسية هنادي حلواني، التي دعت المرابطات المبعدات وأقاربها إلى تناول طبخة المقلوبة على باب السلسلة بالمسجد الاقصى، وكان ذلك بهدف تحدي قوات الاحتلال الصهيوني، التي قامت في تلك السنة بإبعادها عن الأقصى.
تُعرف المقلوبة في القدس بـ»أكلة النصر» فقد دأبت عائلات فلسطينية، خاصة التي تقطن في حارات وأحياء وأزقة القدس القديمة، على تقديم الأطعمة والعصائر للمعتصمين، حول بوابات المسجد الأقصى احتجاجا على وضع بوابات إلكترونية وحواجز حديدية وكاميرات «بوليسية» على أبواب المسجد الاقصى عقب تنفيذ «المحمديون» الثلاثة من عائلة جبارين من أم الفحم داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ العام 1948 وهم : محمد أحمد محمد جبارين (29 عاما)، ومحمد حامد عبد اللطيف جبارين (19 عاما) ومحمد أحمد مفضل جبارين (19 عاما) عملية جريئة في باحات الاقصى قتلوا خلالها اثنين من جنود الاحتلال.
في اعقاب تراجع الاحتلال عن قرار البوابات الالكترونية دعا نشطاء من القدس العائلات المقدسية في يوم الأحد الذي تلا الإعلان عن انتهاء الاعتصامات والانتصار على الاحتلال، إلى مشاركة أطفالهم في أطول طابور للأطفال يطوف باحات المسجد وبترديد هتافات «بالروح بالدم نفديك يا أقصى»، وتقديم أكلة «المقلوبة» المقدسية، وكانت المفاجأة للاحتلال مشاركة أكثر من خمسين ألف مقدسيٍ في هذه الفعاليات.
وقد شهدت باحة الأقصى، العديد من الفعاليات التي كان للمقلوبة دورا فيها أبرزها خلال شهر رمضان في شهر حزيران يونيو 2017، ثم في شهر آب أغسطس، وقدعرفت تلك التظاهرة بـ «مقلوبة في الأقصى».
ومن أشهر الفعاليات ايضاً تلك التي تلت قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، حول إعلان القدس عاصمة لاسرائيل، حيث دأبت العائلات المقدسية على اعداد وجبة المقلوبة، كل يوم أحد وتناولها برفقة المرابطين والمعتصمين، الذين اعتصموا احتجاجا على قرار ترامب، في ساحات المسجد الأقصى.
من أين للصهاينة الغزاة القادمين من بولندا وألمانيا و فرنسا و بريطانيا واثيوبيا ومن شتى بقاع الارض أن يدركوا معنى تقديم طبخة صلاح الدين في باحات الاقصى من قبل احفاد احفاد أحفاد صلاح الدين وجيشه الذي حرر الأقصى قبل 800 سنة ؟! اذ ان التراث ليس وحده الذي يُتوارث بل الاصرار على تحرير الأقصى أيضاً.
الدستور -