الأردن والاعتماد على الذات
يحتاج الأردن في هذه المرحلة الصعبة التي يمرّ بها إقليم الشرق الأوسط برمّته للاعتماد على الذات، فإعتمادنا على الذات أصبح هدفاً إستراتيجياً وطنياً بإمتياز لرؤى ملكية سامية إستشرافية أطلقها جلالة الملك منذ أكثر من عامين صوب دولة الإنتاج والقانون والتكافل، والرسالة الملكية كانت واضحة للتوجّه صوب إستثماراتنا في كلّ من قوانا البشرية ومواردنا الطبيعية المتوفّرة ونشاطنا الإقتصادي، وإستثماراتنا لغايات تعظيم مواردنا كمؤشر على تراجع وإنحسار المنح والمساعدات صوب نضوبها يوماً ما، وكذلك ضرورة الإنتباه لقادم الأيام وما تحمله من أحداث متقاطعة ومصالح عالمية تدخل فيها الحسابات التي لن تُبقي ولن تذر.
فالرؤى الملكية الإستشرافية في الإعتماد على الذات جاءت في وقتها حيث تلاطم أمواج التحديات الخارجية في إقليم الشرق الأوسط والتي يعلمها الجميع، بدءاً من القضية الفلسطينية وتطوراتها وموضوع نقل السفارة للقدس وموقف الأردن الرافض لذلك جملة وتفصيلاً، ومروراً بالأزمات المحيطة في كل من سوريا والعراق وقضايا الربيع العربي وفلولها، والأزمة الأمريكية-الإيرانية والتنبؤات العسكرية القادمة على الأرض، ووصولاً إلى الإرهاب والتطرّف والغلو والتحالفات الدولية وصفقة القرن التي باتت الهاجس الأكبر لكل الإقليم وغيرها من التحديات الخارجية، وكذلك التحديات الداخلية وتحديداً الإقتصادية منها وفرص العمل للشباب العاطل عن العمل ومحاربة جيوب الفقر في ظل عجز الموازنة والمديونية ومؤشرات نضوب وإنحسار المنح والمساعدات الخارجية.
فالإعتماد على الذات يعني التعامل بدبلوماسية مع تبعات عدم الإستقرار في إقليم ملتهب لم يعرف الإستقرار قط، بالإضافة لتدفّق أمواج المهجّرين قسرياً من كل حدب وصوب من فلسطين وسوريا والعراق واليمن وليبيا وغيرها، والأهم من ذلك كلّه تبعات موقف الأردن الأخير والمشرّف نُصرة للقدس والمقدسات والقضية الفلسطينية وتسريبات ومؤشرات صفقة القرن التي تلوح في الأفق، رغم أن الأردن يؤكّد دوماً على الحل الشامل والعادل للقضية الفلسطينية وحل الدولتين وعودة اللاجئين وإعتبار القدس الشرقية عاصمة أبدية وخالدة لفلسطين إيماناً منه بالوصاية الهاشمية على المقدسات الإسلامية والمسيحية منذ العام 1924 ووصاية الشريف الحسين بن علي طيّب الله ثراه عليها، ليحمل لواء وراية هذه الوصاية جلالة الملك المعزز عبدالله الثاني ابن الحسين حفظه الله ورعاه بإسم الغر الميامين من آل هاشم الأطهار.
والاعتماد على الذات يحتاج لخطة إستراتيجية حكومية وأهلية وبتشاركية، ويحتاج لهبّة وفزعة وطنية أساسها الاستثمار بالقوى البشرية الكفؤة من خلال التعليم بشقيه العام والعالي وكذلك إمتلاك مهارات العصر الناعمة والخشنة، وهنا مطلوب من مجلسي النواب والأعيان مساندة الحكومة وبتشاركية لتحقيق هذه الإستراتيجية وإيجاد الوسائل والسبل الكفيلة بالوصول إليها والطلب من الحكومة عمل خطة عمل تنفيذية لهذه الغاية، وكذلك هنالك جهود تشاركية مطلوبة من منظمات المجتمع المدني والأحزاب وغيرها من الهيئات الشعبية والمجتمع المدني.
والاعتماد على الذات يحتاج لرسم ملامح مشرقة لنمو اقتصادي وزيادة فرص العمل ومحاربة الفقر وزيادة الصادرات وغيرها لغايات تعظيم الإيرادات المحلية، وبالطبع لا يمكن أن يتم ذلك إلّا بزيادة الفرص الإستثمارية ومنح التسهيلات والبيئة المناسبة للمستثمرين والحفاظ عليهم، وهنا نؤكّد على ضرورة الإهتمام بالمناطق التنموية التي تجلب المستثمرين وتخلق فرص العمل، وتعظيم خلق فرص العمل لتشغيل الشباب، كما أن هنالك ضرورة لدعم صندوق المحافظات والتأكيد على مجالس اللامركزية بالفعالية اللازمة لغايات وضع الأولويات وتفصيل المشاريع التنموية وفق حاجات وطلب المحافظات والألوية.
والإعتماد على الذات يعني مواجهة التحديات الجسام في النمو الإقتصادي وتحديات قطاعات النقل والطاقة والمياه المستنزفة للموازنة، مما يعني التركيز على برامج الطاقة المتجددة وطاقة الرياح والطاقة النووية وإيجاد مصادر بديلة للطاقة، وكذلك ضرورة إيجاد منظومة نقل عصرية لخدمة المواطن وقطاعات الإنتاج ومواقعها بإنسيابية دون تباطؤ أو تأخير، كما أن ذلك يتطلّب البحث عن مصادر المياه وإدارتها بالصورة المثلى ومنع إستنزاف وهدر وضياع وسرقة المياه وغيرها.
والاعتماد على الذات وفق الرؤى الملكية السامية يحتاج لمشروع نهضوي كبير يعني التركيز على السياحة العلاجية والسياحة التعليمية والإستثمارات وغيرها والمحافظة عليها، ويعني محاربة الفساد والتهرب الضريبي وضبط النفقات لغايات تعظيم الواردات المحلية للموازنة العامة للدولة، وهذا بالطبع يؤشّر لحركة نشطة للمحافظة على بترولنا فوق الأرض وليس تحتها بدءاً من الإنسان ومروراً بالسياحة والتعليم ووصولاً لتعظيم إيرادات الخزينة من خلال زيادة المدخولات وضبط النفقات ومحاربة كل أشكال الفساد.
كما أن الإعتماد على الذات يعني العودة إلى الأرض والزراعة والحاكورة المنزلية وآبار التجميع والحصاد المائي والإنتاجية، ويعني تعظيم التعاونيات والإسكانات وفرص العمل والثروتين الحيوانية والنباتية، وهنا أقترح على الحكومة توزيع أراضي الدولة غير المُستغلة لغايات أن يستثمرها المواطنون وخصوصاً العاطلون عن العمل، وهنالك الكثير من الأفكار في هذا الصدد.
وبالطبع فإن الإعتماد على الذات يعني شدّ الأحزمة وضبط الإنفاق من قبل الجميع حكومة وشعباً! ويعني ترشيد كل المصروفات لغايات عدم الحاجة للآخرين بدءاً من قمحنا ورغيف خبزنا ووصولاً إلى إكتفائنا الذاتي، وهذا يدخل في صلب تطلعات جلالة الملك الداعم لهذا التوجّه كي لا يمنّ علينا أحد.
والإعتماد على الذات يعني المحافظة على منظومة أخلاقياتنا وقيمنا الأصيلة والتي باتت تتهاوى عند البعض، مما يعني إبتعادنا عن مجتمع الكراهية والأنانية والحسد والبغضاء وغيرها، ويعني صدقنا وإخلاصنا في عملنا والعمل بمؤسسية وإنتاجية وغيرها، ويعني حبّنا للآخرين كما نحب لأنفسنا وغيرها من القيم الإيجابية الأصيلة.
وعملياً فإن الاعتماد على الذات يعني الكثير الكثير، ويعني مشاركة الجميع في هذا الجهد والمشروع النهضوي الوطني الكبير والمترادف لغايات الوصول للنتائج المرجوة ودولة الإنتاج لنأكل مما نزرع ونلبس مما نصنع، وربما يكون هذا إحدى المؤشرات المطلوب الوصول إليها لغايات الإعتماد على النفس وتحقيق الإكتفاء الذاتي.
وأخيراً، فإن دعوات جلالة الملك حفظه الله للإعتماد على الذات إستباقية وإستشرافية وتضعنا جميعاً حكومة وشعباً على المحك الوطني لغايات إثبات مواطنتنا ووطنيتنا على الأرض، بمعنى أن طريقنا للمستقبل هو التركيز على الإنتاجية والإبداع والعودة للأرض والاعتماد على الموارد البشرية والطبيعية المتاحة، ومطلوب من الجميع –حكومة ومؤسسات دستورية ومواطنين- البدء بالتنفيذ فوراً لأننا لا نمتلك ترف الوقت!
* وزير الأشغال العامة والإسكان الأسبق