معركة الاستقلال الجديدة
ازدادت حساسیة الأردنیین نحو التحولات الإقلیمیة وما یرتبط بھا من مشاریع دولیة وفي المقدمة ما یشاع حول “ صفقة القرن “ ما یجعل معنى الاستقلال الیوم للأردنیین حتما مختلفا، فلطالما واجھت الدولة الاردنیة تحدیات كبرى ، لكن تحدیات الیوم المرتبطة بمرحلة تصفیة الصراعات التاریخیة وإعادة تشكیل المنطقة من جدید تجعل الدولة لیست أمام استحقاق الدفاع عن الاستقلال وحسب بل خوض معركة استقلال جدیدة . قبل 73 عاما حصل الأردن على قرار یعترف بھ دولة مستقلة مع اتفاقیة تحد من القدرات الدفاعیة والسیاسیة انتھت بعد نحو 10 سنوات ، صحیح أن الأردن خاض نضالا سیاسیا من أجل الاستقلال اكثر من حروب الاستقلال التقلیدیة، ومع ھذا بقي طوال سبعة عقود یخوض ھذا النضال السیاسي دون توقف حفاظا على الاستقلال وفي مواجھة مشاریع الالحاق والتصفیة وإعادة تشكیل المنطقة. لقد شكلت الجغرافیا والدیمغرافیا مساحات رمادیة غامضة في فھم الدولة الأردنیة ، بین النعمة والنقمة وبین الھشاشة والقوة وبین المطلوب والمفروض ، ولم یمر عقد من العقود السبعة الا واجھ الأردن لحظات تاریخیة حرجة على شكل مشروع جدید للتصفیة أو الالحاق أو إعادة التشكیل كانت تلك المشاریع تتدفق اما على شكل حروب للتحریك والابتزاز أو مشاریع سیاسیة مصحوبة بحصارات اقتصادیة وبموجات من الوعید والتھدید ، وربما بصدمات سیاسیة واستراتیجیة كما حدث في اوسلو في مطلع التسعینیات. كان الرھان على أن ضربات المطرقة على ھشاشة الجغرافیا والدیمغرافیا والموارد سوف تكسر الإرادة السیاسیة لھذه الدولة الصغیرة ، وھذا ما لم یحدث بل ان الدولة الصغیرة باتت في أیامھا الأخیرة تحول مصادر الھشاشة التقلیدیة إلى مصادر قوة مرغوبة ومطلوبة دولیا . في الوقت الذي یزداد قلق الناس في ھذه البلاد حول ما یحاك في شأن مرحلة تصفیة الصراعات التقلیدیة تزداد قدرة الدولة والمجتمع على خلق توافقات وطنیة جامعة تعید فھم الدیمغرافیا من جدید .
خلال العقدین الأخیرین أخذ مسار ازدھار الوطنیة الأردنیة ینمو ویتشكل، وفق عدد من المؤشرات التي تؤخذ في الحسبان في مسار بناء الدول وازدھارھا، وعلى الرغم من كل مكامن الضعف ومصادر التھدید التقلیدیة وما فوق التقلیدیة ، وأھم ھذه المؤشرات على الاطلاق قدرة الأردنیین على خلق التوافق الوطني في اللحظات الفاصلة، صحیح ان ھذه ردود فعل طبیعیة في لحظات الشعور بالتھدید أو مواجھة خارجیة، وتحدث في الكثیر من المجتمعات ، لكن ما یحدث في الأردن مختلف تماما ویؤسس لفھم جدید حول دینمیات المجتمع الأردني في مواجھة قصة الھشاشة الدیمغرافیة وھضم التنوع وإعادة انتاجھ، ما قد یضعنا بعد عقود قلیلة أو سنوات أمام نموذج تاریخي آخر لفكرة بوتقة الانصھار وإعادة انتاج المجتمعات والھویات. اختبر التوافق الوطني خلال السنوات العشر الماضیة في لحظات صادمة مثل تفجیرات عمان 2005 وفي حادثة الشھید الطیار معاذ الكساسبة 2014 وفي عملیتي إربد والكرك الإرھابیتین ویختبر الیوم بوضوح في مواجھة تحدي ما یسمى “ صفقة القرن “ ، كل من ھذه اللحظات خلقت اجماعا وتوافقا سیاسیا واجتماعیا قویا، وكل من ھذه اللحظات قد ینظر الیھا من زاویة مختلفة من حیث مصادر التھدید ومستواه والمستھدف منھ والفاعلین فیھ . الوطنیة الأردنیة تزدھر وتخلق الالتفاف حول الجیش والأمن في محیط تدمر فیھ الجیوش الأوطان وتمزق الأجھزة البولیسیة المجتمعات وتحولھا الى مذاھب وملل، المفارقة الأردنیة تبرز في ان الاحداث ھي وحدھا التي تدشن ھذا النموذج المختلف في مسار بناء الدول الحدیثة فیما ما زالت الوطنیة الأردنیة تعاني من فقر مخجل في الادوار البنائیة لمؤسسات التنشئة وفي مقدمتھا المؤسسة الثقافیة والمؤسسة التعلیمیة والمؤسسة الإعلامیة والمؤسسة الشبابیة. معركة الاستقلال الجدیدة لیست مقتصرة على مصادر التھدید الخارجیة وما یرتبط بھا من مشاریع وتصفیة والحاق ، بل ایضا مرتبطة بشكل اساسي باستكمال مسار بناء الدولة الأردنیة على حقائق الھویة والجغرافیا والتاریخ .
الغد - الجمعة 24-5-2019