سميح حمودة.. فقيد الوطنية الإسلامية
خسرت الحركة الوطنیة عموما، والحركتان الوطنیة الإسلامیة، والوطنیة الفلسطینیة، خصوصا، ُ باحثا ومؤرخا، ومؤسسا، م ّھما، ترك خلفھ إرثین یحتاج أولھما لمن یبدأ التمحیص بھ، والثاني لمن یكملھ. توفي الأستاذ في جامعة بیرزیت، الباحث المؤرخ سمیح حمودة ھذا الأسبوع، مسببا صدمة والكثیر من الأسف والأسئلة. ّ ھو صاحب كتاب ”الوعي والثورة“، الذي یتناول سیرة حیاة الشیخ عزالدین القسام، وقد كتبت ّ أستاذة یساریة في جامعة بیرزیت، أن ھذا الكتاب الصادر عن جمعیة الدراسات العربیة، في القدس، العام 1986 ، ّ ھو الذي جعلھا تتأثر بسیرة القسام، وجعلھا تُطلق على ابنھا اسم ”القسام“. ولمن لا یعرف جمعیة الدراسات العربیة، فھي معقل وقیادة منظمة التحریر الفلسطینیة، في فلسطین، حتى مطلع التسعینیات، وكان یقودھا الراحل فیصل الحسیني. وكل ھذا یشیر كیف كان الراحل حیث البوصلة تشیر للوطن. ّ قبل أسبوعین من وفاتھ، وفي المستشفى، عبر عن سعادتھ بزیارات أساتذة الجامعة وزملائھ، ّ ھ یحب ”أھل العلم“، و“حدیث العلم“، كما قال، ورغم ذلك، فإن الحاسوب لم یفارقھ، كان لأنّ یتحدث معنا ویعمل. وبمناسبة إزالة المنع الأمني عنھ، وتحدیدا منع الاحتلال لھ من دخول القدس، وقد رفع المنع بعد مرضھ، كان سعیدا، یقول إنّھ بعد شفائھ سیقوم باستغلال ذلك، ّ والذھاب للقدس، لأن ھناك ”كنزا“ من الوثائق والمخطوطات التي یحتاجھا في البحث العلمي لتوثیق التاریخ الفلسطیني المعاصر والقریب. في الزیارة الأخیرة قبل وفاتھ بیومین، وكان واھنا للغایة أنھكھ المرض جدا، لدرجة صعوبة الحدیث، ولكنھ یبتسم، ویتحدث عن الوثائق، ویتابع ترتیب ملفات أرشیفھ. ُ كان عملھ أثناء مرضھ، على الحاسوب المحمول ونحن نتحدث، وطلبھ كتبا صدرت حدیثا في ّعمان، عبر الھاتف، كمن یستحضر الحدیث النبوي الشریف، ”إذا قامت الساعة وفي ید أحدكم فسیلة فلیغرسھا“.
الأستاذ سمیح، جاري في مكتبي في الجامعة، رغم ھذا لم نتناقش یوما في الأسئلة الشخصیة التي تتعلق بحیاتھ. تحدثنا عن قریتھ لفتا، وعن ”المنع الأمني“ الذي یمنعھ من السفر، لكن لم نتطرق لاعتقالھ لسنوات في الولایات المتحدة الأمیركیة، في العام 2002 ،ولم أسألھ عن ”اتھامھ“ بدعم المقاومة، وتحدیدا الجھاد الإسلامي، ثم إبعاده عن الولایات المتحدة، العام 2005 ،بعد ”تبرئتھ“ تماما، ولم یسمح لھ مناقشتھ أطروحة الدكتوراة، التي كان قد انتھى منھا، ُ أو على وشك. كان نقاشنا ینصب على البحث وكیف یجب أن یكتب التاریخ الحدیث، وعن ما نكتبھ الآن، ولیس ما حدث في الماضي. الجھاد الإسلامي، بشكل أو آخر، حركة انبثقت في الثمانینیات، تحاول أن تجعل فلسطین أولویة للإسلامیین، خصوصا الإسلامیین الفلسطینیین، بالنزول لمیدان الجھاد، بدل انتظار تأسیس الدولة الإسلامیة. نشر في آخر عامین كتابین مھمین، لحقا بالعدید من ابحاثھ ودراساتھ، أولھما ”صوت من القدس.. المجاھد داود صالح الحسیني من خلال مذكراتھ وأوراقھ“، والثاني ”رام الله العثمانیة: دراسة في تاریخھا الاجتماعي 1517-1918 ،″مثل ھذه الدراسات، ومجمل أبحاثھ وكتاباتھ كانت تصب في الوطنیة الفلسطینیة. فوجئت قبل أشھر أنّھ قرر تدریس مساق نظریة العلاقات الدولیة، وھو من المساقات المتخصصة البعیدة، كما كنت أعتقد، عن اھتماماتھ، فھو أقرب للفكر الإسلامي والقضیة الفلسطینیة. فوجئت وھو على فراش المرض، یخبرني أنّھ یرید تحدي الفكر الواقعي التقلیدي، ّ وخصوصا فكرة أن العالم یعیش حالة فوضى، وھي الفكرة الأساسیة في علم العلاقات الدولیة، وأنّھ (انطلاقا من أفكار إسلامیة) یؤمن بوجود منظومة للتوازن الذاتي. لم یتسع المجال أن أحدثھ أنّي قرأت مؤخرا ھذه الفكرة لدى المدرسة النقدیة في العلاقات الدولیة، التي تعتبر ذات جذور ماركسیة، ونویت أن أبحث عن المرجع لأناقشھ بھ مستقبلا. ولكن ھذه الفكرة أعطتني فكرة عن مشروع فكري كان یسعى وراءه. سمیح حمودة، أسھم سواء بنشاطھ السیاسي أو البحثي، حتى ولو بطرق غیر مباشرة، بتأكید فكرة الوطنیة الإسلامیة، وھي فكرة مختلفة، وإن كانت لا تتناقض مع الأممیة والعالمیة الإسلامیة، وھذه فرضیة مني، تحتاج لبحث، ولمن یبدأ تمحیصھا. وسمیح حمودة، كان في مرحلة اقتراب الحصاد، فكثیر من كتبھ التي عمل علیھا سنوات طویلة كانت قریبة من الظھور. وأرشیفھ مليء بالوثائق والمعلومات غیر المنشورة، وكل ھذا یحتاج من تلامیذه وشركائھ في الاھتمامات البحثیة تكملة جھده.
الغد - الجمعة 31-5-2019