أغنيات عابرة «للجينات» !
أمي كانت حين تغضب، يحمر وجهها كبرتقالة يافاوية تحت حر الشمس في الحوش المغطى بعريشة خجولة من الخيش، تغسل ملابسنا بالطشت، وعلى بابور الكاز كان سخان التنك يغلي بماء ممزوج بالصودا مع ما يتسع من ملابس، هي في الاصل قليلة، لم نكن نعلم هل كانت قطرات الماء التي تغطي وجهها، عرقا، تعبا أم دموع لاجئة، لكننا كنا نسمعها تردد أغنيات حملتها في ذاكرتها من «البلاد» التي احتلها اليهود وطردوا أهلها منها. من تلك الأغنيات : ع الروزنا /ع الروزنا/ كل الهنا فيها / شو عملت الروزنا / الله يجازيها. ومنها : يا ظريف الطول / وقف تقوللك / وين رايح عالغربة / وبلادك احسنلك..
أما أبي فكان حين يدب به الشوق للبلاد، يصدح بأعلى صوته بمواويل العتابا والميجنا وهيهاااات يا بو الزلف يتقدمها تنهيدة حزينة بحزن يوم النكبة. ومن الاغنيات التي كانت تختصر المأساة : ويلي دلعونا / ويلي دلعونا / راحوا الحبايب ما ودعونا / يا أرض بلادي / ما بعدك روحي / ولو قطعوني وما داوو جروحي / ع ترابك باقي وما برحل من هونا..
بعد الخمسينيات سمعنا الاغنيات التي كانت تغنيها أمي اللاجئة وأبي اللاجىء، بصوت فيروز وصباح ونصري شمس الدين ووديع الصافي، بنفس اللحن مع اختلاف بسيط في الكلمات، ثم عاد محمد عساف من الجيل الفلسطيني الجديد ليغنيها نفسها.
في فترة تلك الأغنيات وما سبقها لم يكن ثمة حدود ولا جوازات سفر بين أجزاء بلاد الشام. كانت سوريا ولبنان وفلسطين والاردن المترابطة جغرافياً جزءاً من الامبراطورية العثمانية، انها نفس الفترة التي شهدت هجرات الشباب من بيروت وحيفا ويافا واللاذقية وطرطوس الى اميركا الشمالية والجنوبية وافريقيا طلباً للرزق وهربا من التسلط والتجبر والضرائب و..الضرب بالسياط واعقاب البنادق.
الاحتلالات تغير الحدود، لكنها لا تغير الجغرافيا ولا العوامل المشتركة بين الشعوب: لهجات، طعام، البسة، عادات، تقاليد، تراث، أهازيج وأغان،فالذي يجمع بين شعوب الخليج العربي كل تلك العوامل، وكما كان شاطئ المتوسط نافذة شعوبه على العالم، فان بحر الخليج كان كذلك أيضاً، ومصدر الرزق الرئيسي كان البحر بأسماكه ولؤلؤه.
«يا الله يا الله يا الله
يا الله سيدي يا الله
هولوا، لا إله إلا الله
شلنا اتكلنا
هولوا ربي عليك
عليك اتكلنا
وعزوتي يا من
يا من له الملك
يا عالم لما جري
كريم تعلم
علمك بسود
سود الليالي
بهذ الكلمات كان البحارة ينطلقون في رحلة عمل بالبحر تستغرق أربعة شهور، وبانتظار العائدين من الرحلة تقف النساء والأطفال حيث يشعلون النار ويخاطبون البحر أن يعيد لهم ذويهم :
توب توب يا بحر
أربعة والخامس دخل
ما تخاف من الله يا بحر
أربعة والخامس دخل
يا نوخذا هم لا تصلب عليهم
ترى حبل الغوص قطع ايديهم
يا ريتني غويمة
وأظلل عليهم.
الاحتلالات تغير الحدود لكنها لا تغير الجغرافيا ولا العوامل المشتركة بين الشعوب.لهجات، طعام، البسة، عادات، تقاليد، تراث، أهازيج وأغاني.
هل رأيت يا جبران باسيل، ثمة عوامل الاختلاط والجوار خاصة في زمن لم تكن فيه حدود ولا حتى دول هي التي تجمع بين الشعوب.!
الدستور - الجمعة 14 حزيران / يونيو 2019.