«ما في حدا أحسن من حدا»..!
فكرة اعتبار من يتهرب من دفع ضريبة الدخل المترتبة عليه مثلا (مخلا بالشرف الوطني ) تبدو وجيهة، مادام اننا نتحدث عن مسؤولين يتهربون من دفع الضرائب، وعن ثراء يحتكره اقل من عشرة بالمئة من السكان ولا يساهم في اسعاف اقتصادنا من محنته، وعن اموال ورساميل تمضي الى قنوات لا نعرفها، ولا تدخل في حساب تنمية بلدنا واعانة خزينتنا ودفع كابوس الفقر و البطالة الذي يجثم فوق اجساد الالاف من ابنائنا.
الفكرة لا تتعلق فقط باعتبار ذلك التهرب جريمة تمس شرف انتماء المواطن لوطنه، وانما تتجاوزها الى ازمة القيم والمفاهيم التي يعاني منها مجتمعنا، سواء اكانت على صعيد الالتزام بالغرم الذي تفرضه التشريعات (سمها ضرائب ان شئت)، او على صعيد الالتزام باخلاقيات المهنية، وقيم الوظيفة، ومفاهيم العمل العام، والاحساس المشترك بين الناس، وهي ازمة نكاد نلمسها في كثير من مجالاتنا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والتعليمية كلها.
خذ مثلا قيم الوظيفة العامة التي انحدرت الى درجة التكسب ابتداء من تطويع القوانين للحصول على المنفعة الشخصية وانتهاء بتشجيع مفاهيم التزلف و النفاق واغراق الادارة بالاشخاص المقربين وحذف الاخرين من غير اهل الثقة حتى لو كانوا اكفياء، وخذ مثلا ما جرى على صعيد التعليم الذي تحول الى تجارة، مجرد تجارة، لا يراعي اصحابها هيبة الاستاذ، ولا سوية الطلبة، ولا كارثة المخرجات التي تمضي الى المجتمع و لا تمتلك لبنائه، الا المعلومات الناقصة او المشوهة.
وخذ مثلا ما يحدث على صعيد الرعاية الصحية وما طرأ على قيمها من انحرافات، او على صعيد الاعلام وما اصيب به من امراض و اختراقات، او المهن الاخرى: التجارة او الزراعة...ستجد انك امام متواليات طويلة من الانكسارات الاخلاقية و التجاوزات التي طالت بنية تفكير الناس وتقاليدهم ومراسيمهم الاجتماعية كلها.
ولك بالطبع ان تضع اللوم على اسس التربية التي نشأ عليها هذا الجيل، وان تستحضر نماذج النظافة و الاستقامة التي رأيناها في اجيال سابقة، ولك ايضا ان تلقي باللائمة على قوانين الردع الغائبة التي مكنت بعض ضعاف النفوس من ممارسة مثل هذه الشطارة...او الوقوع في شباك رغبة الاثراء او جشع التكسب او غيرها..ولك ايضا ان تطالب بالرقابة والمحاسبة،و صحوة الدولة على مرافقها، وضرورة التفاتها الى ما يجري هنا وهناك من تجاوزات.
لكن الحقيقة ان المشكلة تقع في زاوية اهم،وهي تتعلق بمنظومة قيمنا الاجتماعية وما جرى عليها من تحولات وانقلابات،فتحت لافتة اكسب واهرب اصبحت الشطارة بديلا للامانة ولم يتورع الشباب عن فعل اي شيء ليكونوا اثرياء مادام ان مجتمعهم لا يقيم وزنا الا للاثرياء.
وتحت لافتة «ما في حدا احسن من حدا»، تكسرت كل نماذج الصلاح واصبح البعض لا يتردد في مقارنة احواله باحوال غيره من هؤلاء الشطار، وفي تجاوزهم بأية طريقة حتى لو كانت غير مشروعة، على اعتبار ان الكسب السريع مرادف للذكاء وان الطيبين وحدهم هم العاجزون عن الكسب والمنافسة.
باختصار، نحن بحاجة الى اعادة الاعتبار لكثير من مفاهيمنا التي سقطت في حمى الخصخصة وشباك الوسطاء، ومزاعم الاستثمار المدلل،و بحاجة الى تذكير اجيالنا بنماذج النظافة والاستقامة، والى الاحتفاء بها الى جانب تنفيرهم من كل القيم التي تمجد نموذج الشطارة وكل الاعتبارات والمدائح التي تقام لهم في اي مكان
الدستور - الجمعة 14 حزيران / يونيو 2019.