تَرشيق القطاع العام
لم تتمكن لغاية اليوم أيّة حُكومة من إعادة هَيكلة القطاع العام المُتخم بأعداد كبيرة من العاملين الذين فعليّاً لا وظائف لهم، فهذه مسألة حساسة تحوّلت للأسف من إطارها الاقتصاديّ في التعيينات، إلى جانب اجتماعيّ سياسيّ أدى إلى هذا الشكل السلبيّ للقطاع العام والتراجع في الإنتاجيّة والعمل كما هو عليه الوضع الراهن.
اليوم القطاع العام في الأردن يستحوذ على 56 بالمئة من الناتج المحليّ الإجماليّ وفق احدى دراسات البنك الدوليّ قبل سنوات عدة، وهي من أعلى النسب في العالم، ولا يتشابه بها حتى مع الدول الاشتراكيّة نفسها، رغم أن الاقتصاد الأردنيّ نظريّاً مفروض أن يكون رأسماليّا، لكن فعليّاً لا هوية واضحة للاقتصاد الأردنيّ الذي بات اليوم اقتصادا مُختلطا، فالحكومات تلعب دورا مهما في التشغيل وإدارة الاقتصاد.
نعم هُناك تضخم كبير في القطاع العام في الأردن، ونتحدث اليوم عن قطاع عام يعمل به اكثر من 210 آلاف شخص على مختلف المستويات، وهذا يُشكّل ما نسبته 29 بالمئة من عدد القوى العاملة في المملكة، والقطاع العام الذي نتحدث عنه هو الذي يُشكّل كُلّ وزارات ومؤسسات الدولة الرسميّة والمستقلة والتي تتقاضى أموالا من مخصصات واضحة من الخزينة حسب قانون الموازنة العامة للدولة.
قرار الحكومة الأخير القاضي بإحالة الموظفين الخاضعين لقانون التقاعد المدنيّ الذين يشغلون الفئة الأولى والثانية والثالثة ممن بلغت خدماتهم الخاضعة للتقاعد 30 سنة فأكثر على التقاعد قبل نهاية دوام يوم 30 حزيران الحاليّ مع تمتعهم بمزايا تم إقرارها من قبل مجلس الوزراء، هو محاولة نظريّة من الحكومة لترشيق جهاز الدولة الرسميّ حسب ما صرح به مسؤولون في الحكومة، وهو محاولة قد تكون لإعادة هيكلة القطاع العام وضخ دماء شابة فيه لإعادة حيويته.
مشاكل هذا القرار قد تكون واضحة للعيان في المرحلة الراهنة، والأمر يحتاج إلى رؤية مُتكاملة ضمن إطارها الاقتصاديّ والسياسيّ والاجتماعيّ معاً خاصة في ظل الأوضاع الراهنة التي يعيشها الاقتصاد الوطنيّ الذي ما زال يقبع تحت وطأة تباطؤ عجلة النُمُوّ الذي لا يتجاوز في احسن حالته 2 بالمئة، ومحدودية قدرته على خلق فرص عمل جديدة، ومواجهة الإعداد الكبيرة من الخريجين السنويين من طلاب الجامعات والكليات والمعاهد المختلفة والذين يتجاوز عددهم 150 ألف خريج، في حين قدرة الاقتصاد الوطنيّ في توفير فرص عمل جديدة مع اعلى مُعدّلات نُمُوّ حققها في العقدين الماضيين لمّ تتجاوز 56 ألف فرص عمل يتقاسمها القطاعين العام والخاص معاً، فكيف هو الحال اليوم في ظل نُمُوّ اقتصاديّ لا يتجاوز 2 بالمئة، مع استمرار التحدّيات الاقتصاديّة المُختلفة التي تُحيط بالمملكة من كُلّ صوب وحدب.
قرار الحكومة الأخير بإحالة الموظفين الخاضعين لقانون التقاعد المدنيّ على التقاعد قد يشمل في مرحلته الأولى سبعة الاف شخص على أقل تقدير، وهنا لا من الحكومة أن توضح للرأي العام بعض الأمور المبهمة التي قد يكون لها تداعيات سلبيّة على الأمن الاقتصاديّ للمملكة في ظل مُعدّلات بطالة هي الأعلى في تاريخ المملكة 19 بالمئة خلال الربع الأول من العام الجاري وتراجع واضح في النُمُوّ.
السؤال الأبرز أن غالبية من سيخرجون في المرحلة الأولى هم من أصحاب الخبرات والكفاءات في الجهاز الإداريّ الرسميّ، وبالتالي الحكومة ستخسر نوعية جيدة من الموظفين، وسيتم تعويضهم بتعيينات شابة جديدة التخرج؟، وكيف سيتم ملئ الشواغر؟، واذا كان هناك ترشيق لجهاز الدولة من حيث عدد عامليه حسب ما هو مُعلن، فإن هذا يعني انه لن يتم تعيين أشخاص جدد بدل ممن تم إحالتهم على التقاعد وهذا منطقيّ، لأن أعداد العاملين في القطاع العامل الحاليين تفوق احتياجاتهم بكثير، لكن يبقى السؤال الأهم كيف ستوائم الحكومة بين خطة أعادة الهيكلة للقطاع العام وجهودها وتطلعاتها لخفض مُعدّلات البطالة؟.
مشروع إعادة الهيكلة للقطاع العام مشروع قديم جديد و أحد متطلبات التصحيح الاقتصاديّ مع صندوق النقد الدوليّ وشرط أساسيّ للتعامل مع البنك الدوليّ الذي خصص للأردن مشروعا كاملاً عن الموضوع، لكن كُلّ المُحاولات جميعها تقريبا فشلت بعد أن خضعت الحكومات لضُغوطات مُختلفة في التعيينات وتجاوزت معايير الشفافيّة والحاكميّة، وملأت القطاع العام بآلاف مؤلفة من الموظفين الذين ليست لهم أي حاجة اقتصاديّة.
الحكومات نفسها ارتكبت جريمة بحق الاقتصاد الوطنيّ ضمن خطة إعادة هيكلة القطاع العام ولا ننسى ما قمت به في عام 2011، عندما أقرت خطة إعادة الهيكلة التي قدّرت موازنتها بـ 80 مليون دينار، ليكتشف فيما بهد أن كُلّفتها الحقيقيّة تجاوزت لـ 480 مليون دينار، الأمر الذي فاقم عجز الموازنة الذي يدفع ثمنه اليوم الأردنيين نتيجة قرار إداريّ رسميّ فاشل أقرب ما يصنف بأنه فساد إداري الأكبر في تاريخ المملكة.
الحكومات فشلت بإعادة هيكلة المؤسسات المستقلة رغم أنها قللت عددها نسبيّاً، لكنها في المحصلة أبقت على كافة العاملين فيها بسبب عجزها عن مواجهة الضغوطات الاجتماعيّة من كافة القوى بعدم تسريح أي موظفين.
الحالات السابقة تثبت فشل الحكومات في مشاريع إعادة الهَيكلة وأن المسألة أقرب لإجراءات سريعة غير مبنيّة على دراسات علميّة.
من المفترض على الحكومة أن توضّح للرأي العام تداعيات هذا القرار على الضمان الاجتماعي نفسه، فدخول هذا الكم من المتقاعدين مرّة واحدة تحت مظلة الضمان في ملفات مادية كبيرة عليه ليست على خطط الضمان.
الحكومة اليوم بهذا القرار قد تخسر الكفاءات، وقد تحقق شيئا إيجابيّاً في الأمر أذا ما أحسنت إدارة الملف الذي قد يكون الأكثر تعقيدا في المشهد العام لارتباطه بالأمن المعيشيّ للأردنيين بشكل مباشر، كُلّه مُرتبط بإدارة الملف بشكل علميّ صحيح.
الدستور -