عجز القانون أمام سطوة الثقافة السائدة
مرة أخرى النمط الاجتماعي السائد یتفوق على قوة القانون. قبل نحو عامین أقر مجلس الأمة تعدیلات قانونیة تغلظ العقوبات على مرتكبي حوادث الاعتداء على الكوادر الطبیة والتعلیمیة والموظفین العمومیین.بالرغم من ذلك تواصلت حالات الاعتداء على الأطباء بنفس الوتیرة إن لم تزد اكثر. وھا ھي الحكومة تنوي من جدید فرض مزید من العقوبات المشددة وتعدیل القوانین. لكن المسؤولین یدركون في صمیمھم بأن قوة القانون لن تردع ھذه الممارسات، خاصة في غیاب حلول جذریة للاكتظاظ في أقسام الطوارئ ونقص الكوادر الطبیة، ولذلك قررت اتخاذ إجراءات من نفس طینة الأفعال الثقافیة، تتمثل بوضع بوابات حدیدیة وإلكترونیة تفصل الأطباء والكوادر الطبیة عن المراجعین، وتوفر سیاجا حدیدیا من الحمایة في أقسام الطوارئ.إضافة إلى ذلك تخطط وزارة الداخلیة وتحت إلحاح من نقابة الأطباء وإدارات المستشفیات، إلى تعزیز الحمایة الأمنیة في محیط المراكز الطبیة الكبرى والتي تشھد حركة مراجعین كثیفة كمستشفى البشیر والأمیر حمزة في عمان. عملیا، العلاقة القائمة على الرحمة والمودة والإنسانیة بین الطبیب ومریضھ تتراجع لتحل محلھا علاقة قائمة على الشك والخوف والحذر، وقد یأتي یوم نشھد فیھ الطبیب وھو یقوم بفحص المریض من خلف شبك حدیدي، لیضمن السلامة. لنا أن نتخیل شكل أقسام الطوارئ في المستشفیات وھي مسیجة بالحدید والأبواب الإلكترونیة،وكأننا في حرم أحد السجون،ولو انسحب الأسلوب على المدارس مستقبلا للحد من اعتداءات الطلبة والأھالي على المعلمین، فلن نفاجأ إذا وجدنا استاذا یعطي الحصة من داخل قفص حدیدي. لم تدخر الحكومات المتعاقبة جھدا قانونیا وأمنیا للحد من ظواھر الاعتداء على الأطباء،لكن أزمة العلاقة بین الطبیب والمریض ومرافقیھ استفحلت،إلى الحد الذي لم یعد ھناك من وسیلة تردع
المعتدین. في المجتمعات المتقدمة،تفعل القوانین فعلھا مع مرور الوقت،وتصبح المخالفات مجرد حالات شاذة لا یقاس علیھا. یخشى الناس سلطة القانون حقا،ویعلمون أن مخالفة سیر قد تلقي بھم في السجن أو تحرمھم من قیادة السیارة لسنوات.ما أعنیھ ھنا أن سلطة القانون تفوقت على قوة الثقافة السائدة. لم یتحقق ھذا الأمر في بلداننا لغایة الآن رغم الكم الھائل من التشریعات والانظمة وقوة أجھزة إنفاذ القانون وحضورھا. ھل یعود السبب إلى ضعف في تطبیق القانون على الجمیع وبكل الأوقات؟ لا أعتقد ذلك ففي حالات الاعتداء على الأطباء مثلا، لم تتأخر السلطات في ضبط المعتدین وإحالتھم للقضاء. وأظن أن كثیرین ممن ارتكبوا حوادث مماثلة كانوا قد قرؤوا أخبار توقیف من وقعوا قبلھم في نفس الخطأ. المسألة ثقافیة بحتة، وإلا كیف نفسر إصرار غالبیتنا الساحقة على عدم استخدام حزام الأمان أثناء القیادة رغم معرفتنا جمیعا أن القانون یرتب مخالفة مالیة على عدم استعمالھ. تخیلوا لو أن شرطة السیر قررت في الغد تفعیل ھذا البند من قانون السیر وبدأت بمخالفة كل سائق مركبة لایضع حزاما. أجزم أن حصیلة مخالفات الیوم الواحد لن تقل عن خمسة ملایین دینار.حتما سینتفض الناس ضد ھذا السلوك القانوني من طرف الدولة، بدل أن یفكروا بالالتزام بالقانون لتجنب المخالفة. ھذه ھي جوھر مشكلتنا، قوة الثقافة السائدة التي لاتقیم وزنا للقانون وسلطتھ
الغد