ثقافة « الهراوات» والقنوات
روى لي أحد الأصدقاء (وهو اكاديمي واستاذ جامعي) قصة طريفة اكتشفها اثناء قيامه باعداد دراسة عن «العنف في الجامعات»، اذ طرح على مجموعة من زملائه سؤالا هو: هل تضعون في «سياراتكم» أي أدوات للدفاع عن النفس؟ فكانت الاجابة من معظمهم: نعم؟ ثم سألهم: ما نوعها؟ فأجاب بعضهم: «هراوات» أو «قنوات» (جمع قنوة وهي عصاة غليظة تستخدم للضرب)،، لم يسألهم - بالطبع - لماذا؟ لأن الاجابة معروفة سلفا.
لا ادري اذا كان اصدقاؤنا الاساتذة هؤلاء قد انخرطوا في «برامج» التوعية والارشاد لحث طلبتهم على نبذ العنف واستخدام منطق «الحوار» والتفاهم، أو فيما اذا كانوا قد سبق واستخدموا هذه «الادوات» حين واجهتهم مشكلة في الشارع أو في البيت، أم انها مجرد «احتياط» لمواجهة «عاديات» الزمان، لكن ما ذكره لي ذلك الاكاديمي عن انتشار ظاهرة «القنوة» في سيارات الاساتذة، وغيرهم ايضا، جعلني اتساءل: هل بوسع مجتمعنا ان يتحرر من هذه العادات والتقاليد التي تماهي بين «الرجولة» وبين استخدام أدوات الضرب والعنف؟؟ وهل انتصرت هذه التقاليد حقا على كل ما نشهره من دعوات لمواجهة حدة العنف الذي يتنامى في مجتمعنا..؟؟ هل وضع «الهراوة» أو ربما - المسدسات في سياراتنا وبيوتنا لمجرد الزينة والوجاهة أو الاحتياط والوقاية (للدفاع عن النفس مثلا) أم أصبحت جزءا من ثقافة «العنف» التي تعلن البراءة منها في العلن، ونمارسها - بشكل أو بآخر - في حياتنا؟
اقتناء «الهراوة» أو وضع «القنوة» في السيارة ليست مسألة رمزية، وحتى لو كانت كذلك فهي «رمزية» محملة بتراث ثقيل من المضامين التي تمجد ثقافة العنف، وتحرض عليه، وتجعله «عنوانا» للشعور بالكرامة والانتصار على الآخر (ايا كان: ربما يكون ابنا أو أخا أو زوجة أو تلميذا..الخ)، كما انها تشير الى الاحساس بالخوف وعدم الايمان، أو الامتناع عن الاحتكام الى القانون أو اعتباره المرجعية الاساسية لفض الخصومة وتحقيق العدالة، وهذا ما تؤكده أمثالنا الشعبية التي تؤكد «اخذ الحق باليد» و «الثأر» و «الضرب على الجرح وهو ما زال حاميا»، و «ان العصا لمن عصا»..الخ..الخ.
في واقعنا - ايضا - ثمة حالة من «الانفصام» بين ما نظهره من حالة ثقافية وحضارية، وهي شكلانية وغير حقيقية، وبين ما يتغلغل داخل «ذواتنا» من حالة «استعدائية» أو رغبات في الهيمنة والتسلط وممارسة العنف لاثبات الرجولة أو القوة أو الصلابة أو - حتى - اقناع الآخر بأنفسنا، وربما تكون «القنوة» رمزا كاشفا لهذه الحالة من «الشيزفرونيا» التي نمارسها: خذ مثلا ما يقال في منتدياتنا وجامعتنا عن ضرورة مواجهة العنف، وعن الالتزام بمنطق الحوار والعقلانية، وما يفعله من يتصدى لترسيخ هذه المضامين في خطابنا الجامعي، هؤلاء - أو بعضهم - لا يتورع عن اقتناء «قنوة» في سيارته، أو تأديب أولاده وزوجته بالضرب، أو حتى عن المشاركة في أية «طوشة» تحدث مع الجيران.
اذا أردنا ان نستأصل «العنف» من جامعاتنا ومدارسنا وشوارعنا، ومن مجتمعنا كله، فلنبدأ أولا من «ذاتنا» التي هيمنت عليها ثقافة العنف، ثم لنحرر موروثنا الشعبي (بكل ما فيه من رموز وأمثال) بما فيه من مقولات تجعل العنف وأدواته «دليلا» على الرجولة والقوة والتمكن والاقناع، ثم لنحاول ابراز «النماذج» الانسانية الحقيقية، لا المغشوشة، التي تؤمن بالتسامح والحوار ولا يتناقض جوهرها عن مظهرها في الواقع العياني الملموس.. ثم لنجرب أخيرا وصفة «الوردة» بدل «القنوة» هذه التي تشهدها دول اخرى لا يتردد مواطنوها عن رشق من يختلفون معهم في الشارع أو الجامعة «بالورود» بدل استلال «العصي» والهراوات لتكسير رؤوسهم بها.. عجبي.
الدستور -