إيران إذ تفاجئ حلفاءها
فاجأت إيران بعض أقرب حلفائها بالكشف عن استعدادها المتزايد للشروع في مفاوضات مباشرة مع خصومها الإقليميين والدوليين، بالأخص الولايات المتحدة ... فقبل أن يبدأ سيل التعبير عن هذه الاستعدادات بالتدفق على ألسنة كبار المسؤولين من التيارين المحافظ والإصلاحي بأسبوع واحد فقط، كان السيد حسن نصر الله، أحد أقرب حلفاء إيران إليها وأرفعهم مكانةً، يؤكد لقناة المنار التابعة لحزب الله، وفي الذكرى الثالثة عشرة لحرب تموز 2006، بإن «إيران لن تفاوض أمريكا مباشرة، وهذا موقف كل المسؤولين فيها» من دون أن ينفي انفتاحها على «كل المبادرات بما يحفظ مصالحها»، أو يغفل عن التأكيد بأن إيران «لن تركع نتيجة العقوبات، بل أن «هذه العقوبات ستقوي الإنتاج الداخلي الإيراني».
الموقف الإيراني يتغير، وهذا أمر طبيعي، وهو يتغير بتسارع لسببين اثنين: قسوة العقوبات والرغبة في تفادي الحرب ... وهي وإن كانت لا ترغب في إجراء مفاوضات مباشرة، خصوصاً مع إدارة ترامب، إلا أنها باتت تدرك على ما يبدو، أن عليها أن «تتجرع السم» مرة ثانية ... المرة الأولى كانت عندما قبلت بقرار وقف الحرب مع العراق في العام 1988، فما كل ما يتمنى المرء يدركه، ورياح الخليج والمضيق، باتت تهب اليوم بما لا تشتهي «الناقلات» الإيرانية ... صحيح أن حلفاء طهران، يكتوون بدورهم بنيران العقوبات المفروضة على «دولة المركز»، لكن الصحيح كذلك، أن من يده في النار هم الإيرانيون على وجه الخصوص، ومن يده في النار ليس كمن يده في الماء.
صحيح أيضاً، أن ما من مسؤول إيراني، وآخرهم الرئيس حسن روحاني، عرض لفكرة المفاوضات مع واشنطن، إلا وأتبعها بسيل من الأحاديث عن «الكرامة» و»الندّية» و»المصلحة» و»المنطقية» وغيرها من عبارات ... بيد أن الصحيح كذلك، أن جميع هذه التعابير والتوصيفات، تبقى حبراً على ورق، ولا يمكن ترجمتها إلى لغات أخرى ... في نهاية المطاف، إما أن تنعقد مائدة المفاوضات أو لا تنعقد، فإن التأمت، ستكون المفاوضات الدائرة حولها ترجمة لموازين القوى على الأرض، وليس ترجمة للكلمات والعبارات سابقة الذكر.
هذا أمرٌ تعرفه إيران أكثر من غيرها، وهنا يمكن القول إن السيد نصرالله الذي أخطأ في استبعاد خيار «التفاوض المباشر»، أصاب مرتين حين قال: إن إيران منفتحة على جميع المبادرات بما يحفظ مصلحتها»، و «أن إيران لن تركع بنتيجة العقوبات» ... بيد أنه أخطأ مرة ثانية، حين قال «بل إن هذه العقوبات ستقوي الإنتاج الداخلي الإيراني» ... إذ لو صحت هذه «النظرية»، لوجب على إيران أن تشكر إدارة ترامب على عقوباتها وحصارها، لا أن تلجأ إلى قلب الطاولة على رؤوس الجميع (خيار شمشون)، لتسريع الخروج من عنق زجاجة الحصار والعقوبات.
أمس الأول، سألني أحد الصحفيين الفلسطينيين المخضرمين: أين تتجه إيران، وما الذي تريده؟ ... أجبت من دون تردد: مائدة المفاوضات، وكل ما تفعله طهران اليوم، بل وكل ما تفعله واشنطن كذلك، هو توطئة لالتئام هذه المائدة، وتحضير لها، وتجويد لشروط انعقادها، وأمل في الحصول على صفقة مجزية، أقله وفقاً لمعادلة «رابح – رابح» ... وهذا تقدير منطقي لا يحتاج إلى صلات رفيعة المستوى مع قادة إيران، إذ طالما أن إيران لا ترغب في الحرب ولا تريدها وتخشى عقابيلها ... وطالما أن استمرار الحال من الُمحال حيث تقف مختلف الأطراف على رؤوس أصابعها وعند «حافة الهاوية»، فإن من الطبيعي أن يكون المخرج الثالث، هو العودة إلى مائدة المفاوضات، وتلكم ليست نقيصة تسجل على حساب إيران أو تأكل من رصيدها، فلا عيب في المفاوضات، العيب كل العيب، في إدارتها المتهافتة وغير الحكيمة وغير الصلبة.
خاضت إيران المفاوضات المباشرة مع واشنطن وحلفائها من قبل، وانتهى الأمر إلى اتفاق فيينا الذي تستمسك به طهران بكل ما أوتيت بقوة، بل وتطالب واشنطن بالعودة إليها، وتعرض الوفاء بكل التزاماته بحذافيرها، أن نجح الأوروبيون في اجتراح آلية بديلة تعوضهم عن بعض خسائرهم المترتبة على العقوبات الأمريكية ... وإيران جاهزة كما يتضح من تصريحات كبار مسؤوليها، للعودة إلى المفاوضات، ولا يساورنا الشك في عناد المفاوض الإيراني وتمسكه بما يعتقده حقوقاً طبيعية ومكتسبة لبلاده ... ولطالما قيل في الدبلوماسية الإيرانية بأنها تفاوض بذات الأسلوب الذي يعتمده صانع السجاد الإيراني (العجمي)، كلمة بكلمة، وقطبة بقطبة.
الدستور - الجمعة 26 تموز / يوليو 2019.