ما أجمل هذا التصوير القرآني
في القرآن الكريم ثمة صورة لرجلين: احدهما متصالح مع نفسه متسامح مع غيره، يملك ارادته ويعرف هدفه، مطمئن الى خياراته، متحرر من العلل النفسية، مستيقظ الضمير، متوازن في سلوكه، مفعم بالسكينة والهدوء، منحاز الى الحكمة، يعف عن اللغط ويهرب من الخطأ، «رجل سلم لرجل».
اما الآخر، فمقلب المزاج، لا يستقر على حال، ولا يهدأ له بال، يعاني من القلق، وتتجاذبه الاهواء كأنما «فيه شركاء متشاكسون»، لم يستقر على هدف، ولم يهتد الى خيار، يبحث - بلا جدوى - عن الطريق فتصل قدماه، ويلهث خلف اوهام فلا يصل الى الحقيقة، مثقل بالهموم، متعب من اللهاث، مستغرق في الجدل، تتلاطم داخله الافكار فلا يسمع منها الا الضجيج.
يا الله. ما اجمل هذا التصوير القرآني لما يختلج في انفسنا من احاسيس ومشاعر، ولما نعاني منه من اثقال الطين ونزوات الجسد، وما اكثر ما تزدحم حياتنا بهذه النماذج الانسانية، لا على صعيدنا كأفراد، وانما كمؤسسات وهيئات ومجتمعات ايضا، تصوّر كيف يكون المجتمع - مثلا - سلما من هذه العيوب، ومعافى من هذه الامراض، وكيف يكون حين يصبح متشاكسا مع ذاته، متعبا من الجدل والسجالات، قلقا من الحاضر والمستقبل، حائرا امام ازدحام الخيارات.
تصوّر ايضا كيف يكون حال بعض احزابنا حين يصبح فيها شركاء متشاكسون، هذا يجرها الى اليمين، وذاك يأخذها الى اليسار، وحال بعض مؤسساتنا حين تنتهي بها المشاكسات الى سوء القرارات والمقررات، او حين تعصف بها امواج الاجتهادات فتزل عن طريق الصواب.
يكفي ان نتأمل في نموذج «الرجلين» ليعرف احدنا الى اي منهما ينتمي، واي طريق قد اختار، والى اي مصير يسير، يكفي ان نحكم على اداء مؤسساتنا وفق هذا المعيار، يكفي ان نقرر جدوى الاستمرار من عدمه، او ان نقرأ اشارات التغيير او ان نستنتج مسار المآلات، او ان نحدد التدافع على المواقع، او ان نطمئن الى سلامة الخيارات.. يكفي ان تنحاز الى ما نريده من تحولات او ما ندعو اليه من مراجعات، اذا ما استحضرنا تلك الصورة القرآنية الفريدة التي تفكك هذا الاشتباك بين الهدوء والضجيج، بين العمل المفيد والاوهام العابرة، بين الزبد الذي يذهب جفاء، وبين ما ينفع الناس ويمكث في الارض.
نحتاج الى حكومات تتصالح مع نفسها وتتسامح مع شعوبها، الى مؤسسات لا يتلاطم فيها ضجيج الاهواء والمصالح الشخصية، الى احزاب معافاة من «تشاكس الشركاء» الى مجتمعات مفعمة بالسكينة والاستقرار، وبعيدة عن عنف السجالات ودعاوى الاقحام، الى رموز شعبية قلوبها على البلد، وعيونها مفتوحة على مصالحه وحده، الى مواطنين يعرفون من هم وماذا يريدون، نحتاج - فعلا - الى ان نتصارح ونتصالح ونتسامح، بدل ن يأخذنا «الشركاء المتشاكسون» الذين يتغلغلون في اعماقنا الى مزيد من القلق والخوف، والضعف والتشرذم، والكراهية والقطيعة.. وسوء المآلات.
الدستور - الجمعة 23-8-2019