«خذوا الحكمة من طالبان»
هو اقتراح سيبدو لكل من سيقرأني مستهجنا: «خذوا الحكمة من طالبان» .... طالبان في مفاوضات جدية مع الأمريكيين ... نجحت في إملاء شروطها المسبقة لترتيب طاولة مفاوضات من دون مشاركة وفد الحكومة الموالية لواشنطن، وكان لها ما أرادت ... بيد أن حسن سير المفاوضات، واقترابها من خط النهاية كما أعلنت واشنطن غير مرة، لم يمنع الحركة من توجيه أشد الضربات لواشنطن وحلفائها على امتداد الأرض الأفغانية ... بعض عمليات طالبان «إرهابية» موصوفة بامتياز، وقد استهدفت المدنيين من دون تمييز، ومع ذلك استمرت المفاوضات واستمر قتال طالبان ... استمرت واشنطن في التفاوض، واستمرت في تسجيل الخسائر يومياً.
هي ليست أولى التجارب التي لجأت إليها شعوب عديدة ... الفيتناميون من قبل قاتلوا وفاوضوا إلى أن كان لهم ما أرادوا، وانسحبت واشنطن على نحو غير منظم من سايغون، تجرجر أذيال الخيبة، وصور عملائها المعلقين بطائرات الاجلاء العامودية فوق سطح سفارتها، ما زالت عالقة في الأذهان.
نحن العرب لم نجد القتال ولم نجد التفاوض ... ألقينا السلاح مبكراً، وأعلنا السلام خياراً استراتيجياً وحيداً، قبل أن ننتزع أي من حقوقنا أو حتى قبل أن ننتزع اعترافاً مبدئياً (بالأحرف الأولى) بأن لنا حقوقاً ... ألقينا البندقية في المستودعات حتى أصابها الصدأ، ودخلنا في ماراثون من المفاوضات العبثية، من دون أنياب ولا مخالب، فكانت النتيجة أننا بتنا نُطالب بتقديم تنازل إضافي بعد كل تنازل نقدمه على مذبح ما بات يعرف بـ»عملية السلام»، مع أنها في الأصل «عملية تحرير واسترداد حقوق».
لم يقف التردي بنا عند هذا الحد، فأخذنا نستعير من إسرائيل روايتها المزعومة عن «الحق التاريخي» و»أبناء إبراهيم» و»شعب بلا أرض» ... وانتقلنا من إدانة العدوانات والانتهاكات الإسرائيلية المتكررة إلى إدانة من يقوم بالرد عليها من أبناء جلدتنا ... حتى الذين «قاوموا» بالموقف والكلمة، لم يسلموا من السهام الطائشة والعقوبات اللئيمة المضمرة في ثنايا مواقف وسياسات بعض الأهل والأشقاء.
طالبان الحركة المصنفة إرهابية، حاضنة ابن لادن والقاعدة، من على أرضها جرى التخطيط لأحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول ... ومن أرضها انطلقت عشرات العمليات الإرهابية في كل اتجاه وحدب وصوب ... كل هذا بات مغفوراً للحركة ... وهاهم شيوخ طالبان و»دراويشها» الذين طالما استخففنا بهم، يكادون يجبرون الدولة الأعظم على النزول عند شروطهم كاملة: لن يبقى جندي أمريكي على الأرض الأفغانية، ولن تلقي الحركة السلاح ولا قبل ولا بعد انسحابهم ... كل ما التزمت به الحركة هو ألا تجعل من أرض أفغانستان ملاذاً لتنظيمات إرهابية تستهدف الغرب.
شيوخ طالبان و»دراويشها» نجحوا حيث أخفقنا ... وبرهنوا للمرة الألف، أن العالم لا يستمع إلا من الأقوياء فقط، ونحن ضعفاء ومشتتين ... شيوخ طالبان و»دراويشها» هم من ترجم شعارنا «ما أخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة» ... أما نحن فقد استنفدنا جل طاقتنا في ترديد الشعار والهتاف به من دون أن نقرن القول بالفعل.
حتى «القوة» بمعانيها الناعمة، أحجمنا عن استخدامها ... لقد سخروا من فكرة القوة المسلحة، بيد أن أحداً منهم لم يلجأ لاستخدام عناصر القوة الناعمة التي بحوزتنا: أموالنا، نفطنا، أسواقنا علاقاتنا الدولية، أسلحتنا الإعلامية والثقافية إلى غير ما هناك ... حتى صار الحديث عن «إرغام الاحتلال» على التراجع، أو رفع كلفته، ضرباً من «القومجية» و»الثورجية» البائسة، ودلالة على «تخلف» من يقول بهذه الأفكار ... طالبان تنجح ونحن نفشل ... طالبان تنتصر على الدولة الأعظم، ونحن نُهزم أمام «وكيلها» في المنطقة ... أليس من حقنا أن ندعو لأخذ «الحكمة من طالبان»؟
الدستور -