“حمّالة القمح”
على بعد كيلومترات من الطفيلة، وعلى موازاتها جنوبا تقع بلدة بصيرا. البلدة الجاثمة على تلة تحيط بها الأودية من جهاتها الجنوبية والغربية والشمالية كانت عاصمة لإحدى أهم الحضارات التي حكمت البلدات والمدن المتناثرة على أطراف حفرة الانهدام، وأقامت علاقاتها التجارية مع جيرانها وحلفائها لأكثر من قرن من الزمان. في بصيرا التي أقيمت مدرستها الثانوية على موقع البلدة الأثرية المطلة على نقطة التقاء الأودية السحيقة المتدلية غربا تشحن ذاكرة المعلمين والأجيال المتلاحقة من أبناء البلدة بقصص وروايات وإنجازات من عاشوا وبروا من أبناء البلدة التي تجاوز صيتها حدود الزمان والمكان.
عاصمة الأدوميين التي أمدت الأردن بالجنود والمعلمين والأدباء، وزفت للأردن رجالات على شاكلة سلامة سعيد ومحمد غانم وسليمان الشراري وعيد السعودي والشباب الذين كانوا موضع احترامنا وإعجابنا عندما كنا نلتقيهم على ملاعب مدارس الطفيلة الثانوية في المباريات الرياضية الموسمية. فقد كانت بنيتهم البدنية وقوتهم ومهارتهم أكثر بكثير منا نحن أبناء قرى عيمة وضانا والسلع والحسا. في نهاية السبعينيات من القرن الماضي وبعد أن أنهيت دراستي الجامعية تسلمت وظيفتي الأولى معلما في بلدة بصيرا حيث أتاحت لي التجربة التعرف على رحابة المكان وطباع أهله والتقاط بعض المزايا التي جعلت من المكان موئلا لأهله ومعينا يغذي روح السكينة والتكافل والتواضع المستند إلى إحساس عميق بالعزة.
تاريخ المكان الأردني غائب في الكتب والروايات والمناهج المدرسية. فباستثناء بعض ما كتبه الرحالة وبعض المستشرقين تفتقر مكتباتنا إلى الأعمال التاريخية والأدبية المكتوبة التي تتناول علاقة الإنسان الأردني بالأرض والإنسان والتفاعلات التي أفضت إلى تطور الفكر والأدب والشعر والزراعة والعمران والتعليم.
في القرى والأرياف والبادية يوجد بقايا لحكايات تتناول تاريخ العشائر والبلدات ويحفظ البعض قصائد تجسد القيم والمعاني والعادات التي حافظت على تراث المنطقة وأبقت على علاقات أهلها.
الرواية الجديدة التي احتفلت المنتديات الأردنية بإطلاقها هذا العام مشبعة بالصور والمعاني والمشاهد التفصيلية للحياة الأردنية في القرنين التاسع عشر والعشرين. على مساحة المكان الأردني والعربي يتنقل شخوص رواية الدكتور أحمد عطية السعودي “حمالة القمح” وتمتد إطلالة البعض منهم إلى لندن وميادين الحرب العالمية الثانية وويلاتها من خلال القصص والأخبار التي يستحضرها أبطال الرواية وهم يتحاورون عما يدور حولهم في العالم.
الكاتب الذي امتلك ناصية اللغة واستخدم أدواتها البلاغية وصورها الجمالية في تتبع مسيرة الأهل ورصد تفاعلاتهم الإنسانية والاجتماعية ومستحضرا لتفاصيل المكان بتقنيات المخرج السينمائي المحترف وهو يتنقل بين كاميرات التصوير مستبدلا المشاهد البانورامية الخلابة بتفصيلات ماكروية صغيرة وغير متعجل لاستكمال السرديات التي تتلفع بكثير من البديع اللغوي الذي يبهر القارئ ويطغى على المعنى.
في الرواية التي تحمل آلاف القصص والأحداث وتؤرخ لإنجازات العشرات من أبناء بصيرا والطفيلة والخليل تصوير للأرض والمطر والمواسم ووقفة عند مشاعر الناس ومخاوفهم وأحلامهم وتصوير لتعاونهم وتكافلهم ووقفة عند أحلام الصبايا وأهازيج الفرح والحرب دون إغفال مواقف الصبابة والعشق والرحيل.
العمل الإبداعي الذي تمتزج فيه الرواية وفنونها مع السيرة الذاتية وتاريخ المكان عمل أدبي تاريخي توثيقي تراثي تحتاج له المكتبة الأردنية ويسد ثغرة في جدار الزمن الذي تهدم وتجنبنا بناءه ليبقي كالخرائب التي ننظر لها كأجسام وتكوينات غريبة وكأنها لا تشكل مكونا أساسيا من فكرنا وروحنا ووجداننا.
لقد قلت وأثناء مداخلتي الموجزة في احتفال أسرة القلم إن الرواية غنية بالوصف والتوثيق والأحداث التي تجعل لها قيمة مضافة تؤهلها لأن تصبح مقررا يتناوله الطلبة الذين يفتقرون إلى المصادر عن تاريخ الأردن في القرنين الأخيرين وعلاقة الإنسان بالمكان ومسيرة العمران البشري على الأرض الأردنية.
الرواية عمل يستحق القراءة والنقد، والمجال الأردني يتسع لمئات الأعمال المشابهة للتضافر في رسم الصورة الغائبة للبلاد وتحصين هويتها ضد محاولات إظهارها كأرض بلا شعب كما فعل اليهود بفلسطين.
الغد - الثلاثاء 11-9-2019