في هجرة العقول
لم يختر عمر بن الخطاب نقطة أصل للتقويم القمري الإسلامي تاريخ مولد الرسول (عليه الصلاة والسلام)، ولا اختار غزوة بدر، ولا فتح مكة، وإنما اختار العام الثالث عشر لبداية الدعوة النبوية، وهو عام هجرة الرسول من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة. ولو افترضنا أن الهجرة النبوية لم تحصل، فماذا سيكون شأن الإسلام والمسلمين؟
والواقع أن أهل مكة لم يُقبلوا على الدين الجديد، بل رفضوه وقاوموه وسعوا لاحتواء الرسالة وحاملها حتى كانت القطيعة، وماتت خديجة بنت خويلد وأبو طالب، فقرر الرسول أن يذهب برسالته وصحبه إلى المدينة. وكان لانتقاله إحياء للدين، وتوسعة للمؤمنين بالله، وبداية تأسيس الدولة.
وفي أيامنا هذه، نرى عشرات الألوف من أصحاب العقول يغادرون إما لغرض الدراسة أو العمل بسبب عنصر الدفع أو الطرد وهو عدم فتح الفرصة أمام المبدعين، أو بسبب قوى الجذب الماثلة في الدول التي يسافرون إليها ويقيمون فيها. فتربح الدولة المستقبلة مورداً نادراً وهو العقول الخلّاقة، وتخسرها دول أنفقت عليها حتى إذا ما أينعت وحان قطاف نتاجها هاجرت إلى دول اخرى.
وفي ظني أن قياس إدارة الموارد البشرية، بل وإدارة الاقتصاد كله، تعتمد على حسن استثمار العقل. فإذا سيطر في دولة ما أصحاب الملكات المحدودة، والفاسدون، والمنافقون، وتواصل هؤلاء مع السياسيين فاعتلوا المناصب وجنوا الفوائد، سُدّت السبل أمام المستحقين، فضاقت الدنيا في وجوههم، وآثروا الهجرة.
وقد أهدى لي صديق قديم، وزميل في البنك المركزي، واسمه أحمد حسين السويطي كتاباً نُشر لأول مرة هذا العام بعنوان “رسائل الحكمة المقدسية”. وفيه يقدم المؤلف رسائل تتناول موضوعات مختلفة حول تجاربه وحياته وانطباعاته، ويستعين فيها بموروث الأدب العربي الكلاسيكي من الأشعار أولاً ومن الكتب والنثر ثانياً. ولا شك أنه كتاب رائع في لغته الرصينة المتماسكة، وفي عمق تحليله لما يتناوله من موضوعات.
والرسالة الثالثة في الكتاب بعنوان “براعم القرآن والبيان”، يتناول فكرة استيلاء الزبد والغثاء على المشهد، مما يدفع بالنابغين إلى الهجرة. وهو في هذا التحليل، يذكرنا بقاعدة درسناها في علم الاقتصاد اسمها “قاعدة جربشام”، والتي تعود إلى القرن السادس عشر لشخص يعمل في التمويل اسمه (سير توماس جربشام 1519-1579). وسميت القاعدة باسمه سنة (1860) من قبل باحث اسمه هنري ماكلويد الذي ظن أن جربشام هو أول من خرج بهذه النظرية.
ولكن أصولها تعود إلى الكاتب المسرحي الفكاهي الإغريقي “اريستوفانيس” في مسرحيته “الضفادع”. وتكررت الفكرة ثانية في مؤلفات المقريزي الذي عاش خلال الفترة (1364-1442) وهنالك آخرون. أما القاعدة تقول إن النقود الرديئة تطرد النقود الجيدة من التداول.
وهذا يعني أن الدول التي تستخدم العملة الورقية والعملة المعدنية، فإن الناس فيها يجنحون للاحتفاظ بالعملة المعدنية ذات القيمة خاصة إذا صكت من الذهب أو الفضة، ويستخدمون الورق النقدي الذي تقل قيمة ما فيه من ورق عن قيمته الشرائية. ولذلك تختفي العملة المعدنية خاصة إذا ارتفعت الاسعار، وتبقى العملة الورقية الرديئة في التداول داخل السوق.
وهذا يحصل في سوق العمل، حيث ضعف الانتاج، والبحث العلمي، والبيئة المحفزة للتطوير والتمكين الإبداعي. وفي هذه المجتمعات، فإن الناس الأقل معرفة والأكثر نفاقاً والأذكياء اجتماعياً والخائفين من نظرائهم المتفوقين علمياً وفكرياً، هم الذين يتداولون في سوق العمل، بينما يختفي العلماء والمبدعون، ويهاجرون إلى دول أخرى حيث ينجحون.
ومن المتعلمين والمبدعين من يقتنع في بلده أن مواهبه وقدراته وحدها لا توصله إلى ما يستحق من مكانة ولا تلبي له ما يريده من حاجات، فيتصرف تصرف المتوسطين وقليلي الموهبة. لله درّ أخي أحمد السويطي المبدع والمثقف، والذي عمل في مجال المال والبنوك والاستثمار. فقد أفادنا بكتابه الرائع أيما فائدة.
الغد - الاثنين 16-9-2019