شخص واحد يحرك مصر
كان يمكن للأمور ان تأخذ مسارا آخر. كان يمكن للرئيس عبد الفتاح السيسي الذي استجاب للاحتجاجات الشعبية العارمة أن يقود مرحلة انتقالية مؤقتة لتصحيح المسار معتمدا على اغلبية سياسية وشعبية رفضت أخونة الدولة ودعمت تنحية مرسي.
كان يمكن اقرار دستور ديمقراطي وربما التحول من النظام الرئاسي الى البرلماني أو الابقاء على النظام الرئاسي، لكن مع نأي الرئيس العسكري بنفسه عن خوضها مقابل دعم مرشح وطني توافقي واتخاذ المثال التونسي قدوة. وقد رأينا كيف ان حزب النهضة التونسي في الانتخابات الرئاسية الأخيرة حصل مرشحه عبد الفتاح مورو على نسبة متواضعة لا تتجاوز 11 %. كان يمكن أن يدعم الجيش قوى مدنية ديمقراطية وبقاء الجيش من الخارج ضامنا لأمن المسار الديمقراطي بأقصى قدر من التوافق.
كان يمكن كبح الاتجاهات العنيفة ومحاربة الارهاب دون هوادة ودون القمع بلا تمييز للاخوان بل ترك نافذة سياسية يستفيد منها المعتدلون لمراجعة سياساتهم والاحتذاء بالمثال التونسي. وكان يمكن لحكومات منتخبة ان تواجه التحدي الاقتصادي وجهود الاصلاح تحت ضغط الرقابة الشعبية والمعارضة السياسية فتقدم افضل اداء بعيدا عن الفساد.
لم يكن هذا المسار حالما بل هو ما كانت تستحقه مصر ثورة يناير. لكن مع الاسف ذهبت الأمور في الاتجاه الخاطئ كليا وذروة الذروة فيه تعديل الدستور من اجل ولاية ثالثة للسيسي سلفا تؤمن له البقاء في الحكم حتى العام 2030 !.. أهذا درس بوتفليقية ودرس بن علي أو درس سلفه مبارك! كيف يمكن لرجل شاهد كل هذه الدروس وجاء قائدا للجيش على يد الثورة أن يرتكب الأخطاء نفسها؟
في مصر اليوم تضييق كامل ممنهج، ليس ضد الإخوان فقط، بل ضد جميع اشكال المعارضة، وتهميش للقوى السياسية المتنورة التي قادت الاحتجاجات الشعبية ضد الإخوان، وقهر لكل الشخصيات السياسية المقدرة التي شاركت وتصدرت ثورة يناير، فيما تم تكريس حكم العسكر، وتكريس التضييق على الإعلام، وتجييشه لمصلحة التسحيج والتهريج بصورة غير لائقة لمصر.
رأينا كثيرين يغفرون للرئيس السيسي كل شيء مقابل حزمه في مواجهة الاخوان، لكن الضحية لم يكن الاخوان فقط هذه المرة، بل ثورة يناير وطموحات الشعب والشباب الذي تفتح على ثورة صنعت املا واعتزازا عظيما وثقة بالنفس، خصوصا أنه تم تفريغ الحياة السياسية بصورة كبيرة.
المفاجأة هذه المرة جاءت من حيث لا يحتسب احد، ويا له من درس آخر للتاريخ حين ساد الاعتقاد ان كل شيء استتب على ما هو عليه؛ شخص واحد، نشر شريط فيديو يبين بعض الاختلالات في السلطة، وما قال إنها ملفات فساد، لتسري كالنار في الهشيم عند المصريين، وأتبعه بفيديوهات أخرى داعيا إلى مليونية، فخرجت المظاهرات لأول مرة في عهد السيسي ولا احد يعلم كيف ستنتهي. لكن مجرد خروجها بهذا الزخم هو تحد مذهل لم يكن في الحسبان. شاب وممثل سينمائي ورجل اعمال باع أملاكه وغادر مصر، واكتسب مصداقية اجبرت النظام على ان يرد عليه بالاسم.
الغد - الاثنين 23-9-2019