اعتذر ثم دفع الثمن
استأذن من القارئ الكريم ان اعيد رواية هذه القصة التى جرت في بريطانيا قبل نحو تسع سنوات ، صحيح انها ليست الوحيدة في سجل الممارسات التي نتابعها على الضفة الاخرى من هذه الانسانية التي تنازل فيها المسؤولون عن «استعلائهم « واعتذروا عن ابسط الاخطاء التي ارتكبوها ، فثمة قصص كثيرة مثلها تدهشنا كل يوم ، لكن التذكير بها في هذا الوقت بالذات ، وبما تحمله من قيم سياسية في الاعتذار من قبل السياسي والالتزام بالمهنية من قبل الاعلامي ، له اسبابه الواجبة التي لا تخفى على احد ، وهي - في تقديري - اسباب وجيهة ومفيدة ايضا.
القصة تتحدث عن امرأة بريطانية «اسمها جيليان دافي وعمرها 65 عاما» خرجت للتسوق فصادفت رئيس الوزراء البريطاني والمرشح آنذاك للمرة الثانية عن حزب العمال ، وهو يتحدث للناخبين ، فطرحت عليه سؤالا حول «المهاجرين» الذين اخذوا فرص العمل من البريطانيين.. طبعا حاول رئيس الوزراء ان يجيبها بلباقة ، ثم انصرف مع معاونيه ، وفي الطريق علّق على ما ذكرته المرأة العجوز ووصفها بأنها «امرأة متعصبة» ولم يكن يعرف ان الميكروفون المثبت على قميصه كان مفتوحا.. وان ما قاله سرا لمعاونيه وصل الى وسائل الاعلام.. هذه التي خرجت بعناوين مختلفة منها «هفوة براون تغرق العمال في كارثة» حسب التايمز ، او «المرأة التي خرجت طلبا لحزمة خبز فحرقت براون من خبزة» كما ورد في الغارديان.
لم ينم براون في تلك الليلة: اصدر مكتبه بيان اعتذار «للمرأة» ثم خرج الى وسائل الاعلام لتقديم اعتذار آخر ، واتصل بالمرأة ليبلغها اسفه واعتذاره ، وخضع في احد البرامج التلفزيونية لعملية استجواب قاسية اعترف فيها انه «نادم على فعلته» ويلوم نفسه ولن يعيد تكرار هذه الفعلة في المستقبل.
لم تقبل المرأة العجوز هذه الاعتذارات العلنية ، مما دفع براون الى زيارة المرأة في منزلها ، وتقديم ما يلزم من اعتذار لها ، ورغم ان جيليان قبلت الاعتذار اخيرا الا انها رفضت ان تخرج مع رئيس وزرائها امام شاشات التلفزة ، واكتفت «بالعفو عنه»، فما كان منه الا ان خرج وعقد مؤتمرا صحفيا امام منزلها للاعتذار لها ، وللشعب البريطاني ، عن هذه الهفوة غير المقصودة.
وقتها توقف مصير «براون» على هذه «الغلطة» التي ارتكبها ، فقد عرضت وسائل الاعلام على «المتقاعدة» العجوز مئات الآلاف من الجنيهات للتعليق على ما حدث ورواية القصة «علما بأنها من انصار حزب العمال» كما استغل خصومه كل كلمة قالها في هذه الحادثة لاثبات عدم صلاحيته للاستمرار في رئاسة الحكومة: ذكروا - مثلا - ان براون قال: انه «لم يفهم» ما قصدته المرأة بسؤالها ، فرفعوا شعار «رجل لا يفهم الشعب يجب ان لا يمثله».. تصور!
في بريطانيا ( وفي بلدان اخرى كثيرة) فعلت كلمة واحدة مثل «امرأة متعصبة» افاعيلها في الحياة السياسية ودفعت رئيس الوزراء الى تقديم الاعتذار تلو الاعتذار لتطييب خواطر الشعب البريطاني واستعطافه للعفو عنه وتجاوز هذه الغلطة التي لا تغتفر ، ورغم ذلك دفع الرجل ثمن هذه «الهفوة» هو وحزبه بحرمانه من الفوز الذي تنبأت استطلاعات الرأي بأنه اقرب المرشحين اليه ( فاز آنذاك ديفد كاميرون عن حزب المحافظين من 2010-2016).
ارجو من القارىء الكريم ان لا يسألني: لماذا حدث ذلك؟ وكيف؟ ولماذا تقدم غيرنا وتأخرنا؟ ولماذا تبدو قيمة الانسان لديهم مكرمة ومحترمة؟ ولماذا احتشد الناس ومعهم الاعلام هناك انتصارا «لكرامة» العجوز جيليان؟ وتجرأوا على «براون»؟ ولماذا تزلزلت الارض من تحت اقدام رئيس الوزراء فاعتذر واعتذر.. واشهر ندمه «وتاب» عن تكرار هذا «الذنب» مرّة اخرى، ثم عاقبوه ولم ينتخبوه..؟
اسباب هذا «الرجاء» مفهومة.. ولا اريد من القارىء العزيز ان يقول لي بأنه لا يعرف الجواب.. فأنا -بالتأكيد - لن اصدقه ابدا.
الدستور -