“الراي رايك.. والشور شورك”
في بواكير عملي مدربا للعلوم الاجتماعية وعلم الجريمة في المؤسسات التعليمية والتدريبية أشرفت على العديد من الابحاث التي كان يعدها المشاركون في برامج التدريب ممن امضوا جل اوقاتهم في العمل الميداني الشاق وادركوا عمق الفجوة بين ما كنا نقدمه لهم من دروس ونظريات وبين ما يكتسبونه من دروس عملية واقعية وهم يقارعون الاحداث ويحلون المشكلات ويتعرضون للمخاطر.
أحد أبرز المتدربين ممن حظوا باحترام زملائهم تأخر في تقديم الخطة التي على كل دارس تقديمها قبل قبول الموضوع والسماح له بالمباشرة في البحث العملي. في كل مرة كنا نذكر صاحبنا بالخطة كان يعتذر متحججا بانشغالاته التي نعرفها ويطمئننا على انه أعدها وسيحضرها في اللقاء القادم. مع قرب انتهاء مهلة تسليم الخطط قدم صاحبنا البحث قبل ان يقدم الخطة غير مكترث لنظام الاولويات المعمول به.
بعد ان أدرك صاحبنا الامتعاض الذي تولد على وجوهنا طلب استعادة البحث وأعاد كتابة الخطة بفصولها ومنهجيتها ومفرداتها فقرأناها واعتمدناها فانتظر اسبوعين ليعيد لنا البحث الغني بالقصص والتجارب والحالات التي بدت اكثر إثارة للزملاء من الاستنتاجات التي قد يفضي لها البحث. في تلك الايام بدا البحث كتقرير يعكس تجربة الدارس اكثر منه خلاصة لسعيه في الاجابة عن اسئلة اقلقته. ومهما تكن التجارب غنية فإنها لا تعدو كونها تجارب يصعب تعميمها او اعادة انتاجها فقد تختلف باختلاف الراوي او الفاعل.
استذكر هذه الحادثة وأنا أتابع سيل نتائج الاستطلاعات حول شعبية الحكومة ومشاهدة التلفزيون وإضراب المعلمين والموقف من السياسات والإجراءات التي تتخذها الجهات المختلفة من القضايا العامة والقطاعية والاتجاهات نحو أميركا والحروب في المنطقة وصفقة القرن وحماس ونقابة المعلمين.
في بلادنا يصعب قياس رأي الفرد فالعريس يستشير كل أفراد الاسرة في لون الكراسي التي سيشتريها ويطلق زوجته اذا ما خالفت تعليمات أمه وترسل الفتاة صورة الشاب الذي تقدم لخطبتها الى جميع بنات خالاتها قبل الاجابة على طلب والدته التي حضرت دون علمه.
الشور شورك والراي رايك هو الموقف الذي يعبر عنه غالبية افراد اي جماعة عند سؤالهم عن الشأن العام. في المجتمع الأبوي ينتظر الافراد مواقف الآباء والكبار والازواج ما لم يكن الفرد معنيا بالموضوع المطروح شخصيا. لهذه الاسباب اجد صعوبة في الأخذ بنتائج الاستطلاعات خصوصا تلك التي تتناول قضايا عامة. في بلادنا يغضب الافراد بسرعة ويرضون بسرعة وغالبا ما تكون مواقفهم انعكاسا لمشاعرهم الآنية وهذه الخاصية يجري توظيفها والإفادة منها من قبل المرشحين للمواقع التمثيلية حيث يسترضون الناخبين قبيل الانتخابات ويعاودون إهمالهم لكي لا يثقلون كواهلهم في المطالب المتكررة.
التجربة الأردنية في مجال قياس الرأي العام حديثة نسبيا فقد تزامنت مع عودة الحياة البرلمانية للبلاد العام 1989 وعلى يد أحد خبراء التسويق اللبنانيين الذي ساعد الاجهزة والمؤسسات المهتمة في التعرف على رصد ومتابعة شعبية المرشحين للمجالس النيابية وإعطاء مؤشرات تمكنهم من التحكم بمسارها ونتائجها. هناك مشكلة حقيقية في قياس الرأي العام من خلال استخدام اسئلة فيها اشارة او استخدام لكلمات تتعلق بالتأييد والمعارضة. فغالبية الأشخاص لا يريدون التعبير عن مواقف لغرباء ويفضلون المسايرة على المجاهرة عند مواجهتهم كأفراد وهذه الخاصية معروفة تماما وهي الكامنة وراء فكرة تفريق المظاهرات.
اليوم وأنا أطالع نتائج الاستطلاعات استغرب وأنا اسأل نفسي هل تبلور وعي للأفراد واضح ومستقل عن الجماعة يمكن عزله وقياسه والتعامل معه كوحدة تحليلية أم أننا ما نزال اسرى للمقولة السائدة ” إن جنوا ربعك ما نفعك عقلك”؟ أنا غير متأكد تماما.. وأحتاج إلى مزيد من الاستطلاعات والمراقبة لمدى قدرتها على قراءة الواقع والتعبير عنه.
الغد - الجمعة 27-9-2019