دروس من الإضراب
الكثير من النداءات والحركات والقضايا التي تثار من وقت لآخر تنطفئ بعد فترة قصيرة من ظهورها او يتخلى اصحابها عنها وينسوا ما تحركوا من اجله. انتهاء هذه المطالبات والقضايا لا يعود لعناد وهيمنة الادارات ولا لعدم عدالة المطالب او لضعف ايمان المطالبين بمطالبهم وإنما لأسباب تتعلق بسوء التنظيم وتداخل الاهداف وغياب الشعارات التي تحدد المطالب وتوحي بالعدل وتبدد شكوك من يتصدوا لشيطنة الجماعة وتشويه صورتها.
الحراك والإضرابات الأردنية ليست استثناء فقد خفتت أصوات العديد منها او جرى احتواء قياداتها واستمالتهم وتدجين البعض منهم الامر الذي ادى الى تفتيت بنيتها وإضعاف الثقة بقياداتها وتراجع المؤيدين عن تأييدهم لها. خلال العقد الاخير تحول العشرات ممن قادوا الحراك في العلن الى عناصر هدم وتقويض للبناء ليظهروا لاحقا وزراء ومدراء ورؤساء هيئات مستقلة ومعدّين ومنتجين لبرامج حوارية على منصات عديدة.
على خلاف تجربة الحراكات السابقة تفاجأ الجميع بتطور الاحداث التي جرى تصعيدها من وقفة مؤقتة لإضراب أصبح الاطول في تاريخ النقابات والمهن الاردنية منذ نشأت الروابط والنقابات في منتصف القرن الماضي. المعلمون الذين تواردوا للعاصمة من كل مدن وبوادي وقرى الاردن يعرفون مطالبهم ويملكون الوعي بحقوقهم ويدركون ان النقابة تمثلهم فهم جاهزون للانصياع للقرارات وقادرون على قراءة المشهد والتنبؤ بالمآلات التي قد يتطور اليها.
وفاة النقيب احمد الحجايا في اوج استعدادات النقابة للتصعيد وتسلم نائبه ناصر النواصرة أعطت للنقابة دفعة قوية لا سيما ان خطابات النقيب الراحل اكدت على تمسك النقابة بمطلب الزيادة والعمل باتجاه تحقيقها أيا كانت الكلفة اعطت للنقابة ومجلسها دفعة قوية وإرثا لا يملكون التخلي عنه.
انطلاق الاضراب وأساليب تعاطي الحكومة وضعت الحكومة الاردنية واساليب عملها على مشرحة الشعب وقد انشغل الاعلام الرسمي والشعبي والالكتروني في متابعة الاحداث وقراءة المشهد واستكشاف جوانب القوة والضعف في خطابين احدهما رسمي يحاول التأكيد على الضبط والانضباط ويستند الى القانون والثاني يستند الى مفاهيم الحق والحرية والعدل المستمدة من الدستور والقيم والاخلاق والدين.
على الجانب الاهلي يطالب المعلمون باعتذار حكومي على منعهم من الوصول للعاصمة وعلى الممارسات والتعديات التي قيل انهم تعرضوا لها داخل مراكز التوقيف وهي إن صح الادعاء مهينة ومزعجة وتستوجب الاعتذار والتحقيق. كما يطالبون بزيادة في الاجور بواقع 50 % على الراتب الاساسي ويتطلعون الى اعتراف الحكومة بحق المعلمين في الزيادة ولا يعترضون على جدولتها او تقسيطها او إنفاذها بأي صورة من الصور.
بالمقابل تنكر الحكومة وجود التزام مسبق بإعطاء العلاوة ولا تمانع في تقديم حوافز للمعلمين على هيئة علاوات ترتبط بالمسارات المهنية تصل الى 25 دينارا بالمتوسط وهي اقل من 15 % مما يتطلع له المعلم. موضوع الاعتذار والتحقيقات موضوعات لم تتطرق لها الحكومة بالرغم من انها مطالب يجري التاكيد عليها من قبل النقابة يوميا.
وسط كل هذا الجدل والتعنت دخل على ادبيات الإضراب شعار ربما هو الاقوى والاهم. “نجوع معا او نشبع معا” شعار يدعو السامع الى التأمل في التفاوت الطبقي والتمييز في الأجور والهدر الحكومي والمؤسسي وتأخر تقديم الخدمات والرواتب الخيالية للمستخدمين في الهيئات والمناطق الحرة والشركات شبه الحكومية التي لا تعود على الاقتصاد بفائدة. في وجه تنامي التعاطف واتساع دائرة التأييد تأتي قرارات المحكمة الادارية التي تتوالى بسرعة لتعتبر وقف الاضراب نافذا.
الاضراب الطويل فتح عيون الأردنيين على نماذج قيادية محترمة ومعتبرة واوضحت ان الديمقراطية يمكن ان تفرز قيادات غير مدجنة او مصنعة تحظى باحترام القواعد وتؤتمن على مصالح الأمة.
الغد - الجمعة 4-10-2019